حملا ذا كره ، يعني مشقة (وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) أي وضعا ذا كره أو حال ذات كره فيه إيماء إلى علة وجوب زيادة الإحسان إليها على الإحسان إلى الأب (وَحَمْلُهُ) أي ومدة حمل الولد في بطن أمه (وَفِصالُهُ) أي رضاعه لا فطامه عن الرضاع (ثَلاثُونَ شَهْراً) لكن لما كان الرضاع يليه الفصال وينتهي إليه ، سمي به بهذه الملابسة ، قيل : أقل مدة الحمل ستة أشهر وغاية مدة الرضاع أربعة وعشرون شهرا لقوله تعالى (١)(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ)(٢) ، وروي عن وكيع أنه قال : «إذا جاءت بولد لأقل من ستة أشهر لم يلزم الولد للزوج ويفرق بينهما» (٣) ، ولا رضاع بعد الفصال وتحريم به ، ونزلت الآية في أبي بكر ووالديه (٤) ، قوله (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) يتعلق بفعل مقدر يدل عليه (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) ، أي أخذ ما وصيناه حتى إذا بلغ كمال قوته وعقله ، أقله ثلاث وثلاثون سنة وأكثره أربعون سنة فلذا قال (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) أي ما أؤدي به شكر نعمتك (الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) بها وهي دين الإسلام (وَأَنْ أَعْمَلَ) عملا (صالِحاً تَرْضاهُ) أي تقبله مني وهو الصلوات الخمس وغيرها من الفرائض التي عليّ (وَأَصْلِحْ لِي) أي هب لي الصلاح (فِي ذُرِّيَّتِي) أراد جعل ذريته موقعا للصلاح ومظنة له ، يعني أكرمهم بالإسلام والعمل الصالح فأسلم جميع أولاده ، روي : «أنه لم يكن أحد من الصحابة أسلم هو ووالداه وأولاده غير أبي بكر رضي الله عنه» (٥)(إِنِّي تُبْتُ) أي توجهت (إِلَيْكَ) بالتوبة على العصيان (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [١٥] أي الموحدين المخلصين في دينهم.
(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦))
(أُولئِكَ) أي الموصوفون بهذه الصفة ، يعني أبا بكر ووالداه وذريته ومن كان مثلهم فيها (الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) هنا (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) التي فعلوها قبل التوبة ، وقرئ الفعلان بنون المتكلم وبياء مضمومة فيهما مجهولين ورفع (أَحْسَنَ)(٦) ، قوله (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) حال ، أي كائنين فيهم أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هم في عداد أهل الجنة (وَعْدَ الصِّدْقِ) مصدر مؤكد ، أي وعدهم الله وعدا صدقا لا خلف فيه ، وقيل : وعد الثواب (الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) [١٦] وهو الجنة.
(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧))
(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) المراد منه الجنس وهو مبتدأ ، خبره (أُولئِكَ الَّذِينَ) الآية ، أي الذي قال لأبويه (أُفٍّ لَكُما) قرئ بالتنوين وبغيره (٧) ، وهو صوت لعلم به تضجر الإنسان ، أي بي تضجر منكما (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) من قبري بعد الموت (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ) أي مضت (مِنْ قَبْلِي وَهُما) أي والحال أن والديه (يَسْتَغِيثانِ اللهَ) تعالى ، أي يدعوانه له بالهدى ويقولان لولدهما (وَيْلَكَ آمِنْ) أي ويحك أسلم وصدق بالبعث (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) أي إنه كائن لا محالة (فَيَقُولُ) الولد (ما هذا) القرآن (٨)(إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [١٧] يعني أنتما كاذبان (٩).
(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا
__________________
(١) نقل المؤلف هذا الرأي عن البغوي ، ٥ / ١٣٦ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٢٥٤.
(٢) البقرة (٢) ، ٢٣٣.
(٣) انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٣٢.
(٤) عن مقاتل والكلبي ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٣٢ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ١٣٦ ؛ والكشاف ، ٥ / ٢٥٤.
(٥) ذكر علي بن أبي طالب نحوه ، انظر البغوي ، ٥ / ١٣٦ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٢٥٤.
(٦) «نتقبل» ، «أحسن» ، «نتجاوز» : قرأ المدنيان والمكي والبصريان والشامي وشعبة بياء تحتية مضمومة في الفعلين وبرفع نون «أحسن» ، والباقون بنون مفتوحة في الفعلين ونصب نون «أحسن». البدور الزاهرة ، ٢٩٥.
(٧) «أف» : قرأ المدنيان وحفص بكسر الفاء منونة ، وقرأ يعقوب وابن عامر وابن كثير بفتحها من غير تنوين ، والباقون بكسرها من غير تنوين. البدور الزاهرة ، ٢٩٥.
(٨) القرآن ، ح : القول ، وي.
(٩) كاذبان ، وي : كاذبين ، ح.