رأوا أن نور المنافقين قد طفئ فخافوا على نورهم على عادة البشرية وإن كانوا معتقدين الأمن بالإيمان ، أي أحفظ لنا نورنا من الطفوء (وَاغْفِرْ لَنا) ما مضى من الذنوب (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [٨] أي على إتمام النور ومغفرة الذنوب وغيرهما ، وهذا الدعاء ليس للتقرب حقيقة ، لأنه ليست الدار دار تقرب لكنهم أظهروا حالهم كحال المتقربين خوفا عن زوال ما هو حاصل لهم من الرحمة ، فلذلك يسمى تقربا.
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩))
ثم حرض النبي عليهالسلام على جهاد الفريقين بقوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) بالسيف (وَالْمُنافِقِينَ) بالحجة وإقامة الحدود (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي اشدد على الكفار والمنافقين في ذلك (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) إن لم يتوبوا (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [٩] أي المرجع جهنم.
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠))
قوله (ضَرَبَ اللهُ) أي مثل (مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي لكفار مكة (امْرَأَتَ نُوحٍ) اسمها واعلة (وَامْرَأَتَ لُوطٍ) اسمها واهلة ، نزل حين قال كفار مكة استهزاء يشفع لنا محمد يوم القيامة ، فبين بضرب المثل أن شفاعة محمد لا ينفع كفار مكة ولو كانوا أقرباءه ، لأن امرأة نوح وامرأة لوط (١)(كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ) أي زوجتيهما (مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) أي عاملين عملا صالحا في الإسلام (فَخانَتاهُما) أي خالفتا نوحا ولوطا في الدين ، لأن امرأة نوح كانت تخبر الناس أنه مجنون ، وامرأة لوط كانت تدل على الأضياف ، فخيانتهما : إبطان الكفر والتظاهر على الرسولين (فَلَمْ يُغْنِيا) أي زوجهما (عَنْهُما) مع صلاحهما ، يعني مع صالح الزوجين وكفر زوجتيهما (مِنَ اللهِ) أي من عذابه (شَيْئاً وَقِيلَ) أي يقال في الآخرة لزوجتيهما (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) [١٠] أي الكافرين من قوم نوح ولوط ، فكذلك (٢) يقال لكفار مكة في الآخرة وإن كانوا أقرباء النبي عليهالسلام ، يعني لا ينفعهم صلاحه عليهالسلام وإنما ينفع الإيمان به ، ولا يجوز أن يكون الخيانة فيهما الفجور ، لأنه قبيح في الطباع (٣) لا يستحسنه أحد من الناس بخلاف الكفر ، فان الكفار لا يستقبحونه بل يستحسنونه ويسمونه (٤) حقا ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : «ما بغت امرأة نبي قط» (٥).
(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١))
(وَضَرَبَ اللهُ) أي مثل (مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا) بالنبي عليهالسلام (امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) اسمها آسية آمنت بموسى حين سمعت بتلقف عصاه ما أفكته السحرة ، فعلم فرعون إيمانها به ووتدها بأربعة أوتاد وعذبها بأن ألقى على مصدرها رحى عظيمة واستقبل بها الشمس ، قيل : كانت الملائكة تظلها من حرارة الشمس (٦) ، وأبدل من امرأة فرعون (إِذْ قالَتْ) امرأة فرعون عند ذلك (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً) أي منزلا شريفا من منازل التقرب بك ، ثم بينت مكان القرب بقولها (فِي الْجَنَّةِ) وهو جنة المأوى أقرب إلى العرش ، وهذا معنى قوله (عِنْدَكَ) ، لأنه تعالى منزه عن الحلول في مكان ، ولذا جمع بين (عِنْدَكَ) و (فِي الْجَنَّةِ) فكشف لها فرأت بيتها فنسيت عذابها فضحكت ، فقالوا عند ذلك إنها مجنونة تضحك وهي في العذاب (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ) أي من شركه (وَعَمَلِهِ) السوء (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [١١] أي من تعييرهم وشماتتهم ، قيل : نجاها الله بأكرم نجاة رفعها
__________________
(١) قد أخذه عن السمرقندي ، ٣ / ٣٨٣.
(٢) فكذلك ، وي : وكذلك ، ح.
(٣) الطباع ، وي : الطبائع ، ح.
(٤) ويسمونه ، ح و : سموه ، ي.
(٥) انظر البغوي ، ٥ / ٤١٧ ؛ والكشاف ، ٦ / ١٣٢.
(٦) نقله عن الكشاف ، ٦ / ١٣٣.