(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣))
روي : أن المومنين قالوا لمن آمن من أهل الكتاب أخبرنا عن التورية ، فان فيها علم الأولين والآخرين فنزل (١)(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) وقيل ملت الصحابة ملة فقالوا يا رسول الله حدثنا حديثا فنزل ذلك (٢) ، أي أنزل إليكم القرآن وهو أحسن من سائر الكتب ، لأنها نسخت به (٣) ، قوله (كِتاباً) بدل من (أَحْسَنَ) أو حال منه (مُتَشابِهاً) أي يشبه بعضه بعضا في الحسن والنظم والصحة والحكم ، يعني لا يختلف ولا ينتقض بعضه ببعض ، قوله (مَثانِيَ) صفة (مُتَشابِهاً) ، جمع مثنى ، أي ثني فيه ، يعني كرر الوعد والوعيد والأمر والنهي والثواب والعقاب والقصص ، وفائدة التكرير أن النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة فما لم يتكرر عليها لم يعمل عملها (٤) ولم يرسخ فيها أو لأنه يثنى في التلاوة فلا يمل ، وإنما صح وصف الواحد بالجمع لأن الكتاب ذو فضول من سور وآيات وأحكام ومواعظ وقصص وأمثال كما أن الإنسان ذو عظام وعروق وأعصاب ، قوله (تَقْشَعِرُّ) وصف ثالث ل «الكتاب» ، والاقشعرار الرعدة في الجلود والأعضاء من الخوف ، المعنى ترتعد وتنقبض (مِنْهُ) أي من سماع القرآن وآيات وعيده (جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) خوفا وإجلالا لله تعالى ، قيل : إنما ذكرت الجلود وحدها ، لأن ذكر الخشية هنا أغنى عن ذكر القلوب لكونها محل الخشية ، وإنما قرنت القلوب بها في قوله (ثُمَّ تَلِينُ) أي تطمئن وتسكن (جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) ورحمته لزوال الخشية ومجيء الرجاء في قلوبهم مكانها بعد الاقشعرار (٥) ، يعني تقشعر جلودهم عند الوعيد بآية العذاب وتلين عند الوعد بآية الرحمة والمغفرة وإنما اقتصر بذكر الله من ذكر الرحمة لما تحقق أن رحمته سابقة على غضبه ، فاذا ذكر الله لم يخطر بالبال من صفاته إلا كونه رحيما ، قيل : «هذا الوصف نعت أولياء الله تعالى» (٦)(ذلِكَ) أي الكتاب الذي ذكر (هُدَى اللهِ) أي سبب توفيقه (يَهْدِي بِهِ) أي بالقرآن (مَنْ يَشاءُ) إلى دينه (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) عن دينه (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [٢٣] أي من (٧) موفق يهديه بعد خذلان الله تعالى.
(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤))
(أَفَمَنْ يَتَّقِي) روي : أن الكفار إذا كان يوم القيامة غلت أيديهم إلى أعناقهم فألقوا في النار منكوسين فلا يستطيعون أن يدفعوا النار إلا بوجوههم وهو اتقاؤهم (٨) ، أي أيستوي الآمن من النار والمعذب فيها (٩) فمن يدخل النار فيتقي (بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) أي أشده كمن أمن منه بدخول الجنة لأنه لا يصل النار إلى وجهه ، يعني ليسا سواء (يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ) أي قال الخزنة (لِلظَّالِمِينَ) أي للعاصين (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) [٢٤] أي جزاءه من الكفر والمعاصي.
(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦))
(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من قبل أهل مكة من الكافرين أنبياءهم (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) [٢٥] أي من جهة لا يتوهمون أن العذاب يأتيهم منها لشدة غفلتهم (فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ) أي الذل من القتل والمسخ وغيرهما (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) أي أشد مما عذبوا في الدنيا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [٢٦] ولكنهم ما علموا.
__________________
(١) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٣ / ١٤٨.
(٢) عن ابن مسعود ، انظر الكشاف ، ٥ / ١٥٩.
(٣) هذا القول منقول عن السمرقندي ، ٣ / ١٤٨.
(٤) لم يعمل عملها ، ح ي : لم تعمل عمله ، و.
(٥) اختصره من الكشاف ، ٥ / ١٦٠.
(٦) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٥ / ١٢.
(٧) من ، ح و : ـ ي.
(٨) اختصره المفسر من البغوي ، ٥ / ١٣ ؛ والكشاف ، ٥ / ١٦٠.
(٩) فيها ، ح و : بها ، ي.