(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥))
قوله (وَيَعْلَمَ) بالنصب عطف على تعليل محذوف وهو كثير في القرآن ، تقديره : لينتقم منهم وليعلم (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) أي في القرآن بالتكذيب (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) [٣٥] أي مهرب من عذابنا ، وبرفعه استئناف (١).
(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦))
قوله (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) شرط ، جزاؤه (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ما أعطيتم من شيء من أموال الدنيا فهو زينة الحيوة الدنيا ويتمتع به زمانا يسيرا ثم يزول (وَما عِنْدَ اللهِ) أي في الآخرة من الثواب (خَيْرٌ) من حطام الدنيا (وَأَبْقى) أي أدوم (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [٣٦] أي يفوضون أمورهم إليه.
(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧))
(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) عطف على المؤمنين ، وكذلك ما بعده للمدح بجمع الصفات العظام ، أي وللذين يجتنبون (كَبائِرَ الْإِثْمِ) أي الشرك وغيره من النفاق والرياء (وَالْفَواحِشَ) وهي التي توجب الحد في الدنيا والعذاب في الآخرة (وَإِذا ما غَضِبُوا) على أحد (هُمْ يَغْفِرُونَ) [٣٧] أي يتجاوزون عنه ، وجعل (هُمْ يَغْفِرُونَ) جملة اسمية وقعت جوابا ل (إِذا) لإفادة التخصيص ، أي هم الأحقاء بالغفران في حال الغضب.
(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨))
(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أي أطاعوه فيما يدعوهم إليه من الإيمان به والأمر والنهي (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي الصلوات الخمس في مواقيتها (وَ) الذين (أَمْرُهُمْ شُورى) أي ذو شورى مصدر بمعنى التشاور ، يعني لا ينفرد واحد منهم برأي دون صاحبه ، وكانوا قبل مقدم رسول الله عليهالسلام المدينة إذا كان بينهم أمر اجتمعوا وتشاوروا فأثنى الله عليهم بذلك وهم طائفة الأنصار (بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [٣٨] أي يتصدقون في سبيل الله.
(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩))
(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) أي الظلم الذي يؤدي إلى الفساد (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) [٣٩] أي ينتقمون من المشركين ولا يعتدون عما أمرهم الله به من الانتقام ، وهذه الآية لا تنافي آية (يَغْفِرُونَ)(٢) ، لأن ذلك عند الاقتدار على الانتقام مع عدم الفساد ، روي : «أنهم قوم كانوا يكرهون أن يستذلوا ويحبون العفو إذا قدروا» (٣).
(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠))
(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ) أي عقوبة مظلمة صادرة من ظالم عقوبة به (مِثْلُها) أي مثل مظلمته ، يعني يجب إذا قوبلت الإساءة أن يقابل بمثلها من غير زيادة ، سميت الثانية سيئة للمشاكلة (فَمَنْ عَفا) أي من تجاوز عن مظلمته (وَأَصْلَحَ) الود بينه وبين خصمه بالعفو (فَأَجْرُهُ) أي ثوابه (عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [٤٠] أي البادين بالظلم ، روي : «أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له على الله أجر فليقم فلا يقوم إلا من عفا» (٤) ، فيقال له ادخل الجنة باذن الله.
__________________
(١) «ويعلم» : قرأ المدنيان والشامي برفع الميم ، والباقون بنصبها. البدور الزاهرة ، ٢٨٧.
(٢) الشورى (٤٢) ، ٣٧.
(٣) روى سفيان عن منصور عن إبراهيم ، انظر السمرقندي ، ٣ / ١٩٨ ؛ والبغوي ، ٥ / ٨٧.
(٤) عن محمد بن المنكدر ، انظر السمرقندي ، ٣ / ١٩٨ ـ ١٩٩ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ٨٧ (عن الحسن).