ذكرهم بأقلّ عبارة فلم يقل : فإنهم أعداء لى ، بل وصفهم بالمصدر الذي يصلح أن يوصف به الواحد والجماعة فقال : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي).
ثم قال : (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) ، وهذا استثناء منقطع ، وكأنه يضرب بلطف عن ذكرهم صفحا حتى يتوصّل إلى ذكر الله ، ثم أخذ في شرح وصفه كأنه لا يكاد يسكت ، إذ مضى يقول : والذي .. والذي .. والذي .. ، ومن أمارات المحبة كثرة ذكر محبوبك ، والإعراض عن ذكر غيره ، فتنزّه المحبين بتقلّبهم في رياض ذكر محبوبهم ، والزهّاد يعددون أورادهم ، وأرباب الحوائج يعددون مآربهم ، فيطنبون في دعائهم ، والمحبون يسهبون في الثناء على محبوبهم.
قوله جل ذكره : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨))
كان مهتديا ، ولكنه يقصد بالهداية التي ذكرها فيما يستقبله من الوقت ، أي : يهدينى إليه به ، فإنّى محق في وجوده وليس لى خبر عنّى!.
والقوم حين يكونون مستغرقين في نفوسهم لا يهتدون من نفوسهم إلى معبودهم ، فيهديهم عنهم إلى ربهم ، ويصيرون في نهايتهم مستهلكين في وجوده ، فانين عن أوصافهم ، وتصير معارفهم ـ التي كانت لهم ـ واهية ضعيفة ، فيهديهم إليه (١).
قوله جل ذكره : (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩))
لم يشر إلى طعام معهود أو شراب مألوف ولكن أشار إلى استقلاله به من حيث المعرفة بدل استقلال غيره بطعامهم ، وإلى شراب محبته الذي يقوم بدل استقلال غيره بشرابهم.
قوله جل ذكره : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠))
لم يقل : وإذا أمرضنى لأنه حفظ أدب الخطاب.
__________________
(١) يشرح القشيري قول الواسطي : لا تصح المعرفة وفي العبد استغناء بالله وافتقار. فيقول : أراد الواسطي بهذا أن الافتقار والاستغناء من أمارات صحو العبد وبقاء رسومه لأنهما من صفاته. (الرسالة ص ١٥٥) ويقول ذو النون : عرفت ربى ولو لا ربى ما عرفت ربى (الرسالة ص ١٥٦).