أي أن الذي أكرمك بإنزال القرآن عليك هو الذي بحفظك عن الأسواء والأعداء وصنوف البلاء.
قوله جل ذكره : (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧))
سار موسى بأهله من مدين شعيب متوجها إلى مصر ، ودجا عليه الليل ، وأخذ امرأته الطّلق وهبّت الرياح الباردة ، ولم يور الزّند ، وضاق على موسى الأمر ، واستبهم الوقت ، وتشتتت به الهمة ، واستولى على قلبه الشغل. ثم رأى نارا من بعيد ، فقال لأهله : امكثوا إنّى أبصرت نارا. وفي القصة : إنه تشتت أغنامه ، وكانت له بقور وثيران تحمل متاعه فشردت ، فقالت امرأته :
كيف تتركنا وتمضى والوادي مسبع؟!.
فقال : امكثوا .. فإنى لأجلكم أمضى وأتعرف أمر هذه النار ، لعلّى آتيكم منها إمّا بقبس أو شعلة ، أو بخبر عن قوم نزول عليها تكون لنا بهم استعانة ، ومن جهتهم انتفاع. وبدت لعينه تلك النار قريبة ، فكان يمشى نحوها ، وهي تتباعد حتى قرب منها ، فرأى شجرة رطبة خضراء تشتعل كلّها من أولها إلى آخرها ، وهي نار مضيئة ، فجمع خشيبات وأراد أن يقتبس منها ، فعند ذلك سمع النداء من الله لا من الشجرة كما توهّم المخالفون من أهل البدع. وحصل الإجماع أنّ موسى سمع تلك الليلة كلام الله ، ولو كان النداء في الشجرة لكان المتكلم به الشجرة ، ولأجل الإجماع قلنا : لم يكن النداء في الشجرة (١). وإلا فنحن نجوّز أن يخلق الله نداء فى الشجرة ويكون تعريفا ، ولكن حينئذ يكون المتكلم بذلك الشجرة.
__________________
(١) أي أنه على هذا الرأى كلام غير مخلوق ، لأن كلام الله صفته ، وصفته ـ سبحانه ـ غير مخلوقة .. وهذا هو نفس الرأى بالنسبة للقرآن ، وهذا هو الجواب الذي دحض به السلف زعم الجهمية حينما أرادوا أن يثبتوا أن القرآن مخلوق ، لأن القرآن شىء ، «والله خالق كل شىء» (انظر مدارج السالكين لابن القيم ج ١ ص ٢٢٢) فيكون النداء الذي سمع من الشجرة كالكلام الذي بين دفتى المصحف .. كلاهما كلام الله ـ على الحقيقة ، ولكن من حيث التجوز في التعبير يقال (فى الشجرة) و (فى المصحف).