وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩))
جعل الله في كلّ شىء من المخلوقات دلالة على توحّده في جلاله ، وتفرّده بنعت كبريائه وجماله (١).
(وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) : والإشارة منها أنّ الحقّ ـ سبحانه ـ يغار على أوليائه أن يسكن بعضهم بقلبه إلى بعض ؛ فأبدا يبدّد شملهم ، ولا تكاد الجماعة من أهل القلوب تتفق في موضع واحد إلا نادرا ، وذلك لمدة يسيرة .. كما قالوا :
رمى الدهر بالفتيان حتى كأنّهم |
|
بأكناف أطراف السماء نجوم |
وفي بعض الأحايين قد يتفضّل الحقّ عليهم فتدنو بهم الديار ، ويحصل بينهم ـ فى الظاهر ـ اجتماع والتقاء ، فيكون في ذلك الوقت قد نظر الحقّ ـ سبحانه ـ بفضله إلى أنّ في اجتماعهم بركات لحياة العالم.
وهذا ـ وإن كان نادرا ـ فإنه على جمعهم ـ إذا يشاء ـ قدير.
قوله جل ذكره : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠))
إذا تحقّق العبد بهذه الآية فإنه إذا أصابته شظية أو حالة مما يسوءه ، وعلم أن ذلك جزاء له ، وعقاب على ما بدر منه من سوء الأدب لاستحيى بخجلته من فعله ، ولشغله ذلك عن رؤية الناس ، فلا يحاول أن ينتقم منهم أو يكافئهم أو يدعو عليهم ، وإنما يشغله تلافى ما بدر منه من سوء الفعل عن محاولة الانتصاف لنفسه ممن يتسلّط عليه من الخلق .. تاركا الأمر كلّه لربّه.
ويقال : إذا كثرت الأسباب من البلايا على العبد ، وتوالى عليه ذلك .. فليفكّر فى أفعاله للذمومة .. كم يحصل منه حتى يبلغ جزاء ما يفعله ـ مع العفو الكثير ـ هذا المبلغ؟! فعند ذلك يزداد حزنه وتأسّفه ؛ لعلمه بكثرة ذنوبه ومعاصيه.
__________________
(١) سبق أن نبا القشيري إلى توحيد القالة وتوحيد الدلالة.