العقل في القلب كمثل السراج في وسط البيت (١).
أقول : هذا هو الذي يعرفه العقلاء ويسمّونه بالعقل ، وبه يميّزون العاقل عن غيره نوعا ، ويعرف كلّ عاقل أنّه صار واجدا له في كبره بعد أن كان فاقدا له في صغره ، كما نبّهت عليه الرواية المتقدّمة ، ويفقده الإنسان أو يجده ضعيفا عند شدّة الغضب أو الشهوة ، وفي منامه ، فيرى في بعض رؤياه أنّه يصدر منه ما لا يصدر من العاقل ، أو من العاقل الكامل. ويفقده أيضا بعد وجدانه فيصير مجنونا ، ويجده بعد فقدانه فيصير عاقلا ، وفي جميع هذه الأحوال يجد أنّ إنّيته وشخصيّته لم تتغيّر عمّا كانت عليه ، فيتنبّه أنّ العقل ليس من مراتب النفس ومرتبة فعليّة بعد القوّة ، بل هو نور مستقلّ يجده بعد فقدانه ، ويفقده بعد وجدانه متعاقبا.
نعم لا بأس بالتعبير عن وجدان الإنسان لذلك النور بأنّه فعليّة للنفس ، إلاّ أنّها ليست فعليّة حصلت للنفس بالحركة الجوهريّة ، وامتنع تنزّلها عنها إلى مقام يعبّر عنه بالقوّة ، لما عرفت من أنّه يفقده الإنسان بعد وجدانه إيّاه ، فهذه الفعليّة والقوّة عبارة عن وجدان نور العلم وفقدانه من دون درك لحقيقته ، كما نبّه عليه في ذيل الرواية المتقدمة المرويّة عن الاختصاص : قال الصادق عليهالسلام : خلق الله العقل من أربعة أشياء : من العلم ، والقدرة ، والنور ، والمشيئة بالأمر ، فجعله قائما بالعلم ، دائما في الملكوت. (٢)
وأظنّ أنّ بعض الأعاظم قال في بيان الرواية : إنّ الشيء إذا وجد أوّل درجة من الشعور يقال : إنّه حيّ ، وهذا الشعور من حيث ظهوره ومظهريّته يقال له العلم ، فإذا وجد الحيّ العلم وكماله الآخر ـ وهو القدرة أي القدرة النفسيّة ، والاختيار والحريّة وهو المراد من المشيئة ـ وظهر له حسن الفعل وقبحه الذاتيّان ، المعبّر عنهما بالحسن والقبح الفعليّين ، ووجوب الفعل وحرمته الذاتيّان ، المعبّر عنهما بالحسن والقبح الفاعليّين ـ وهو المراد من النور ـ فإنّه يقال له العاقل. والله العالم.
ولعلّ وجه التعبير عن هذه الدرجة من وجدان العلم ـ بما له من الكمال المذكور ـ
__________________
(١) راجع ص ١٩.
(٢) راجع ص ١٩.