نعم ، لو كانت الصحيحة هكذا : التقيّة في كل شيء ، وكل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له ، أمكن أن يقال : إنها اشتملت على كبريين إحداهما : التقيّة في كل شيء ، سواء أكانت مع الاضطرار أم لم تكن. وثانيتهما : كل شيء يضطر إليه ... إلاّ أنها ليست كذلك كما ترى ، وبما أن الضرورة والاضطرار لا يصدق مع وجود المندوحة فلا محالة تختص التقيّة المشروعة بموارد عدم المندوحة.
وممّا يدلّنا على ذلك أيضاً ما رواه أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن معمر بن يحيى قال : « قلت لأبي جعفر عليهالسلام إن معي بضائع للناس ونحن نمر بها على هؤلاء العشار فيحلفونا عليها فنحلف لهم؟ فقال : وددت أني أقدر على أن أُجيز أموال المسلمين كلها وأحلف عليها ، كل ما خاف المؤمن على نفسه فيه ضرورة فله فيه التقيّة » (١).
وبذلك كلّه نقيد الإطلاقات الواردة في بعض الأخبار كقوله عليهالسلام « ما صنعتم من شيء أو حلفتم عليه من يمين في تقيّة فأنتم منه في سعة » (٢) ..
هذا ، على أنه يمكن أن يمنع عن دلالة المطلقات على عدم اعتبار عدم المندوحة من الابتداء ، وذلك لما قدّمناه من أن التقيّة من وقى يقي وقاية ، والوقاية بمعنى الصيانة عن الضرر ومنه المتقون ، لتحذرهم وصيانة أنفسهم من سخط الله سبحانه ، وعليه فقد أُخذ في مفهوم التقيّة خوف الضرر واحتماله ، ولا إشكال في أن المكلف مع وجود المندوحة لا يحتمل ضرراً في ترك شرب النبيذ أو في الإتيان بواجب ، لأن المفروض تمكنه من ذلك لوجود المندوحة العرضية أو الطولية ، ومع عدم خوفه وعدم احتماله الضرر في ترك شرب النبيذ كيف يكون ارتكابه تقيّة رافعة لحرمته ، وعليه فلا يصدق مفهوم التقيّة في موارد وجود المندوحة.
إذن لا إطلاق يقتضي مشروعية التقيّة عند وجود المندوحة حتى نحتاج إلى تقييده بما قدّمناه من الصحاح ، هذا كله فيما إذا كانت التقيّة من العامة في غير العبادات من
__________________
(١) ، (٢) الوسائل ٢٣ : ٢٢٧ / أبواب كتاب الايمان ب ١٢ ح ٢.