الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ) أثبت العلم بارساله وانه من الأمور الظاهرة المسلمة التي لا يدخلها ريب ، ولا يعتريها شك ، لكن عدل عن ذلك إلى ما هو دليل عليه ، ورادف له وهو الايمان به أعني صالحا إنما صح عنهم بعد ثبوته عندهم ، والعلم بإرساله إليهم فالإيمان به أدنى دليل على العلم بأنه نبي مرسل ، وهذا من دقائق الأرداف ولطائفه. وأمثال ذلك كثيرة كقول الاعرابية في حديث أم زرع تصف زوجها له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك ، إذا سمعن صوت المزاهر أيقنّ أنهنّ هوالك .. فإن الظاهر من هذا القول أن إبله يبركن عند بيته بفنائه ، ولا تبرح ليقرب عليه نحرها للأضياف فاذا هزت المزاهر للغناء نحرها لضيوفه ، فقد اعتادت هذه الحالة وأيقنتها وغرض الأعرابية من هذا الكلام أن تصف زوجها بالجود والكرم ، ولكنها لم تذكر ذلك بلفظه الدال عليه ، وإنما أتت بمعان دلت على ذلك من غير تصريح بمرادها .. وكذلك قال بعضهم :
وددت وما تغني الودادة أنني |
|
بما في ضمير الحاجريّة عالم |
فإن كان خيرا سرّني وعلمته |
|
وإن كان شرّا لم تلمني اللوائم |
أي أهجرها فأضرب عن ذلك جانبا ، ولم يذكر ذلك اللفظ المختص به ، لكنه ذكر ما هو دليل عليه ورادف له .. الثالث من الكناية وهو المجاورة ، وذلك أن يريد المؤلف ذكر شيء فيترك ذكره جانبا إلى ما جاوره فيقتصر عليه اكتفاء بدلالته على المعنى المقصود كقول عنترة :
فشككت بالرمح الأصمّ ثيابه |
|
ليس الكريم على القنا بمحرّم |
أراد ـ بالثياب ـ هنا نفسه لأنه وصف المشكوك بالكرم ، ولا توصف