خلفه تنزيل من حكيم حميد ، وحسبهم بذلك علوا وفخارا ، وجعله نورا وصراطا مستقيما ، وحث على تعلمه وعلمه ليعم بإحسانه ويؤتى من لدنه أجرا عظيما ، وأقامه حجة على من ضل ومحجة لمن اهتدى ، وأودعه حكمة وموعظة وهدى ، ونصبه دليلا على الحق لا يضعف ولا يهي ، وسبيلا يصدر عنه كل رشد وإليه ينتهي ، وطريقا تجلى بأسلاك نفائس الأعمال أهل سلوكها ، وبرهانا واضحا يزجرهم عن خلل انحلال عقائدهم وشكوكها ، وأودعه من الاعجاز ما لا يحصر بحصر حاصر ولا بعد عاد ، من الأمر والنهي والوعد والوعيد والحكم والأمثال والمواعظ وقصص القرون السالفة كأصحاب الرسّ وقوم عاد ، فكم في لفظه من إيجاز يسفّه حلم من يقول بلفظه ، وكم في معناه مغن للجادّ في حفظه ، أبدعت في انواع البديع كلماته ، وأغربت في أجناس التجنيس سوره وآيته ، ورمت أرباب الفصاحة بالجمود والعي فصاحته وجزالته ، وأخرست ألسنتهم الذربة فأعيتهم معارضته وإزالته فأقروا له بعد تسفيه أحلامهم وتقريعهم وتعجيزهم بالحلاوة والطلاوة ، وعلموا أنه ليس من كلام البشر ولكن غلبت عليهم الشقاوة ، هذا مع أنهم لم يتدبروا أكثر معانيه ، بل قالوا ( لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ) طلبوا الغلب وظنوا أنهم غالبون وأوسعوا الطلب فولوا وهم خائبون ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) أنزله بلسان العرب ليكون حجة عليهم ونسخ به جميع الكتب فكان انزاله أشد نازلة لديهم ، وجعل أعظم معجزاته دوام آياته ، متلوا بالألسنة باقيا مع بقاء الأزمنة ، محفوظة في الصدور منتقلة في الصحائف والمصاحف من لدن الرسول محروسة من التبديل والتغيير والزيادة والنقصان والذهول ، قرآنا لا يسأم منه تاليه ، مع تكراره وتواليه ، ولا يملّه واعيه ، بل تتوفر على توقيره دواعيه ، في كل حين تظهر فيه من قضايا التنزيل ، وخفايا التأويل ، من نتائج أفكار الخلف ، غير ما جادت به فطن السلف ، كل حرف منه تتفجر به ينابيع من الحكمة ، وكل كلمة تمطر منها سحائب الرضوان