والدليل على أن شرف هذه الآية بسبب ذلك أنّا لو تركنا هذا الطريق وأسندنا الفعل الى الشيب صريحا فقلنا : اشتعل شيب الرأس ، أو الشيب في الرأس لانتفاء ذلك الحسن.
فإن قلت : فما السبب في إن كان اشتعل إذا استعير للشيب على هذا الوجه كان له هذا الفضل. فنقول السبب فيه أن يفيد مع لمعان الشيب في الرأس أنه شمل وشاع وأخذ به من نواحيه وعم بجملته حتى لم يبق من السواد شيء إلا القليل ، فهذه الفائدة لا تحصل إذا قيل اشتعل الشيب في الناس لا يوجب اللفظ أكثر من ظهور الشيب فيه. وبيانه أنك تقول اشتعل النار في البيت لا يفيد أكثر من اصابتها جانبا. ومثاله من التنزيل قوله تعالى : ( وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً ) فالتفجير للعيون في المعنى ، لكنه وقع في اللفظ على الأرض ليفيد أن الأرض بالكلية صارت عيونا.
الفائدة الثالثة : تعدية الرأس بالألف واللام وإفادة معنى الإضافة من غير الإضافة ، وهو أحد ما أوجب المزية ، ولو قيل واشتعل رأس لذهب الحسن .. ومن هذا الباب قوله تعالى : ( وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) أصل الموج حركة الماء فاستعمل في حركتهم على سبيل الاستعارة. وقوله عز وجل : ( وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ ) للظهور .. وأما استعارة المحسوس للمحسوس لشبه عقلي فكقوله تعالى : ( إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) المستعار له الريح والمستعار منه المرأة العقيم والجامع بينهما المنع من ظهور النتيجة. ومنه قوله تعالى ( وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ ) المستعار له ظهور النهار من ظلمة الليل ، والمستعار منه ظهور المسلوخ من جلدته ، والجامع أمر عقلي ، وهو ترتيب أحدهما على الآخر. ومنه قوله تعالى ( فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) أصل الحصيد للنبات والجامع الهلاك وهو أمر عقلي. وقوله ( خامِدِينَ ) أصل الخمود للنار. ومنه قوله تعالى ( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ ) وهو أفصح من أن يقال في أصل الكتاب ..