خير ممّا كثر ، حتّى إذا ارتوى من ماء آجن واكتثر من غير طائل ، جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره ، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشوا رثّا من رأيه ثمّ قطع به (١) فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ ، إن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب ، جاهل خبّاط جهالات ، عاش ركّاب عشوات لم يعضّ على العلم بضرس قاطع يذري الروايات إذراء الريح الهشيم ، لا ملئ والله بإصدار ما ورد عليه ، لا يحسب العلم في شيء ممّا أنكره ، ولا يرى أنّ من وراء ما بلغ مذهبا لغيره ، وإن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم به من جهل نفسه ، تصرخ من جور قضائه الدماء ، وتعجّ منه المواريث. إلى الله أشكو من معشر يعيشون جهّالا ويموتون ضلّالا ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته ولا سلعة أنفق بيعا ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرّف عن مواضعه ، ولا عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر (٢) *.
______________________________________________________
* كلّ ما أشار به عليهالسلام ممّا تقدّم نقله وتأخّر قد نبّهنا أنّه حكاية حال زمانه ، وربما ومن بعده في زمان باقي الأئمّة عليهمالسلام في وصف امور العامّة ورجوعهم إلى اعتماد موافقة مراد الخلفاء والامراء لأجل الدنيا ، فينتحلون الحجج والتوجيهات على ما يوافق مرادهم ، وأكثرهم يعلمون الحقّ وفساد ما انتحلوه ، ويموّهون على الناس صحّتها حتّى يتمّ لهم مطلوبهم من الدنيا وهذا كان المعهود في زمن أمير المؤمنين ومن بعده عليهمالسلام من مفتية العامّة وقضاتها.
وأمّا ما ذكره في الحاشية فان موافقة بعض الأصحاب للعامّة في دفع الإيراد الوارد على تعريف الفقه لا وجه ولا مناسبة للإشارة إليه في كلام الإمام ، لأنّه في ذلك الوقت لم يكن هذا الدليل موجودا حتّى يشير إليه ، وإن حملناه على ما يأتي ـ وهو عليهالسلام لا يبعد عليه علم ذلك ـ فكان الّذي ينبغي منه عليهالسلام في دفع هذا المحذور الشنيع باعتقاد المصنّف أن يصرّح به وينبّه عليه
__________________
(١) أقول : قوله عليهالسلام : « ثمّ قطع به » إشارة إلى ما تقرّر عند العامّة ومن وافقهم من متأخّري الخاصّة إنّ الطريق الظنّي يفضي إلى حكم قطعيّ في ذهن المجتهد ، لأنّه بعد ما حصل له ظنّ بمسألة فقهيّة يرتّب دليلا هكذا : هذا مظنوني ، وكلّ ما هو كذلك يجوز لي ولمن يقلّد في العمل به قطعا للإجماع ، فيجوز العمل بهذا. وقوله عليهالسلام : « يذري الروايات ... الخ » إشارة إلى فعل علماء العامّة من تركهم وطرحهم الروايات المنقولة بطريق أهل البيت عليهمالسلام ( منه رحمهالله ).
(٢) نهج البلاغة : ٥٩ ، الخطبة ١٧.