ولم ينه عن الهزل ولم يعب الجهل ، ولكنّ الناس لمّا سفهوا الحقّ وغمطوا النعمة واستغنوا بجهلهم وتدابيرهم عن علم الله واكتفوا بذلك دون رسله والقوّام بأمره وقالوا : لا شيء إلّا ما أدركته عقولنا وعرفته ألبابنا فولّاهم الله ما تولّوا وأهملهم وخذلهم حتّى صاروا عبدة أنفسهم من حيث لا يعلمون ، ولو كان الله رضي منهم اجتهادهم وارتياءهم فيما ادّعوا من ذلك لم يبعث الله إليهم فاصلا لما بينهم ولا زاجرا عن وصفهم ، وإنّما استدللنا أنّ رضا الله غير ذلك ببعثه الرسل بالامور القيّمة الصحيحة والتحذير عن الامور المشكلة المفسدة ، ثمّ جعلهم أبوابه وصراطه والأدلّاء عليه بامور محجوبة عن الرأي والقياس. فمن طلب ما عند الله بقياس ورأي لم يزدد من الله إلّا بعدا ولم يبعث رسولا قطّ وإن طال عمره قابلا من الناس خلاف ما جاء به حتّى يكون متبوعا مرّة وتابعا اخرى ، ولم ير أيضا فيما جاء به استعمل رأيا ولا مقياسا حتّى يكون ذلك واضحا عنده كالوحي من الله. وفي ذلك دليل لكلّ ذي لبّ وحجى أنّ أصحاب الرأي والقياس مخطئون مدحضون ، وإنّما الاختلاف فيما دون الرسل لا في الرسل *. فإيّاك أيّها المستمع أن تجمع عليك خصلتين : إحداهما القذف بما جاش به صدرك واتّباعك لنفسك إلى غير قصد ولا معرفة حدّ ، والاخرى استغناؤك عمّا فيه حاجتك وتكذيبك لمن إليه مردّك ، وايّاك
______________________________________________________
* وقال المصنّف في الحاشية قوله : « إنّما الاختلاف فيما دون الرسل لا في الرسل » يعني من قال بالرسل لا ينبغي أن يجوّز الاختلاف في الدين ، لأنّهم مرسلون لرفع الاختلاف في الّذين لم يقولوا بهم أن يجوّزوا الاختلاف.
أقول : ربما يفهم من نفي الاختلاف في الرسل : أن يكون الاختلاف بعد إرسال الرسل ، لأنّ الرسول بعد ما ثبتت رسالته لا مجال للاختلاف فيه ، وقد أخبر الرسول باختلاف أمّته كاختلاف أمّة موسى عليهالسلام ولكن الذمّ عند الاختلاف لمن اعتمد على رأيه واكتفى بعقله وتحسينه ، كما ينبّه عليه قوله عليهالسلام : « واكتفوا بذلك دون رسله والقوّام بأمره ، وقالوا : لا شيء إلّا ما أدركته عقولنا وعرفته ألبابنا » وكلام المصنّف في الحاشية : إن أراد أنّه لا يجوز لأحد تعمّد الخلاف مع وضوح الحقّ والصواب في الحكم فهذا ظاهر ولا فائدة مهمّة في التنبيه عليه ، وإن أراد أنّه لا يجوز في