وأقول ثانيا : بعد التنزّل عن المقام الأوّل أنّه من المعلوم عادة أنّ مثل هؤلاء الأجلّاء إذا صنّفوا كتبا لإرشاد الطائفة المحقّة والعمل بما فيها والاعتماد عليها إلى قيام الساعة من غير نصب علامة مميزة بين ما ثبت وروده عنهم وبين ما لم يثبت لم يجمعوا فيها إلّا الأحاديث الصحيحة الثابتة عندهم صحّتها المأخوذة من العيون الصافية غير النافذة في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة.
وأقول ثالثا : من المعلوم أنّ نبيّنا وأئمّتنا ـ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم ـ لم يضيّعوا من كان في أصلاب الرجال من شيعتهم. ومن المعلوم : أنّهم لم يجوّزوا لهم التمسّك بما تمسّكت به العامّة ، فتعيّن أن تكون لنا كتب مضبوطة مصحّحة ممهّدة من عندهم عليهمالسلام.
وأقول رابعا : أنّ الروايات الدالّة على أنّهم عليهمالسلام أمروا جمعا من أصحابهم بتأليف ما يسمعونه منهم لعمل الشيعة بها في زمان الهرج وعلى إخبارهم بوقوع ذلك من الشيعة متواترة معنى ، وإذا ترقّيت في هذه المباحث إلى هذه الدرجة من الإيضاح فحقّ لك أن تقول : « اطف المصباح قد طلع الصباح » وأن تقول لمن يكون بعد ذلك في ريب وشكّ :
______________________________________________________
ولو كان السيّد المرتضى وجملة من ذكره يعتقدون ما نسبه المصنّف إليهم كيف كان جاز لهم العمل بخلافها والتصريح بردّها بأنّها أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا؟ وكيف يدّعي المصنّف أنّه حصل في قلبه القطع العادي بسبب ما بلغه من اتّفاقهم وأحوالهم وأوضاعهم؟ والحال أنّ مثل السيّد المرتضى والمفيد مع المعاصرة في زمن واحد قد ذكرنا نقلا عن السيّد ابن طاوس رحمهالله في رسالته : أنّ الاختلاف حصل بينهما في تسعين مسألة (١). ولو أراد أحد التتبّع لفتاويهما لزاد عن ذلك ؛ والحال فيمن تقدّمهم وتأخّر عنهم كذلك.
وما وقع في زمن الأئمّة عليهمالسلام من اختلاف الآراء والمذاهب ووضع الأحاديث أزيد من ذلك. ولكن المصنّف على قدر إرادته يدّعي ويثبت ولا يتوقّف على صحّة الدليل.
__________________
(١) تقدّم ذكره في ص ٣٥ وفيها : خمس وتسعين مسألة.