وأمّا الشافعي فإنّ كلامه يختلف في كتبه ، فربّما قال : إنّ الحقّ في واحد وعليه دليل قائم وأنّ ما عداه خطأ ، وربّما مرّ في كلامه أنّ كلّ مجتهد قد أدّى ما كلّف به ، وربّما يقول : إنّه قد أخطأ خطأ موضوعا عنه. وقد اختلف أصحابه في حكاية مذهبه ، فمنهم من يقول : إنّ الحقّ في واحد من ذلك وإنّ عليه دليلا وإن لم يقطع على الوصول إليه وإنّ ما عداه خطأ ، لكنّ الدليل على الصواب من القولين لمّا غمض ولم يظهر كان المخطئ معذورا. ومنهم من يحكي : أنّ كلّ مجتهد مصيب في اجتهاده وفي الحكم وإن كان أحدهما يقال فيه قد أخطأ الأشبه عند الله.
والّذي أذهب إليه ـ وهو مذهب جميع شيوخنا المتكلّمين المتقدّمين والمتأخّرين وهو الّذي اختاره سيّدنا المرتضى ـ قدّس الله روحه ـ وإليه كان يذهب شيخنا أبو عبد الله رحمهالله ـ : أنّ الحقّ في واحد وأنّ عليه دليلا من خالفه كان مخطئا فاسقا.
واعلم أنّ الأصل في هذه المسألة القول بالقياس والعمل بأخبار الآحاد ، لأنّ ما طريقه التواتر وظواهر القرآن فلا خلاف بين أهل العلم أنّ الحقّ فيما هو معلوم من ذلك ، وإنّما اختلف القائلون بهذين الأصلين فيما ذكرناه ، وقد دلّلنا على بطلان العمل بالقياس وخبر الواحد الّذي يختصّ المخالف بروايته ، وإذا ثبت ذلك دلّ على أنّ الحقّ في الجهة الّتي فيها الطائفة المحقّة. وأمّا على ما اخترته من القول في الأخبار المختلفة المرويّة من جهة الخاصّة فلا ينقض ذلك ، لأنّ غرضنا في هذا المكان أن نبيّن أنّ الحقّ في الجهة الّتي فيها الطائفة المحقّة دون الجهة الّتي خالفها ، وإن كان حكم ما يختصّ به الطائفة والاختلاف الّذي بينها الحكم الّذي مضى الكلام عليه في باب الكلام في الأخبار ، فلا تنافي بين القولين ، وهذه الجملة كافية في هذا الباب (١) انتهى كلامه رحمهالله.
وسيأتي في كلامنا ما ذكره قدسسره في باب الكلام في الأخبار إن شئت فارجع إليه ، ومحصول كلامه هناك : أنّ اختلاف فتاوى أصحابنا المبنيّ على اختلاف الفتاوى الواردة عنهم عليهمالسلام لا يستلزم تناقضا بين تلك الفتاوى حتّى يكون الحقّ في واحد ، وذلك لأنّ كلّ واحد منهم يقول : هذه الفتوى ثبت ورودها (٢) عنهم عليهمالسلام ولم يظهر
__________________
(١) عدّة الاصول ٢ : ٧٢٣ ـ ٧٢٦.
(٢) خ : رواها ثقة.