المستمرّ بين أجزائه تدفعه.
فإن قيل : إحكام النظام وإتقانه العجيب الحاكم بين أجزائه يشهد أنّ التدبير الجاري تدبيرٌ عن علْم والأصول الحكميّة القاضية باستناد العالم المشهود إلى علل مجرّدة عالمة يؤيّد ذلك ، فهب أنّ الأرباب المفروضين متكثّرة الذوات ومتغايرتها ويؤدّي ذلك بالطبع إلى اختلاف الأفعال وتدافُعِها ، لكن من الجائز أن يتواطؤا على التسالم وهم عقلاء ويتوافقوا على التلاؤم رعايةً لمصلحة النظام الواحد وتحفّظاً على بقائه.
قلت : لا ريب أنّ العلوم التي يبني عليها العقلاء أعمالهم صور علميّة وقوانين كلّيّة مأخوذة من النظام الخارجيّ الجاري في العالم ، فللنظام الخارجيّ نوعُ تقدُّم على تلك الصور العلميّة والقوانين الكلّيّة وهي تابعة له. ثمّ هذا النظام الخارجيّ بوجوده الخارجيّ فِعْلُ اولئك الأرباب المفروضين ، ومن المستحيل أن يتأثّر الفاعل في فعله عن الصور العلميّة المنتزعة عن فعله المتأخّرة عن الفعل.
فإن قيل : هبْ أنّ الأرباب المفروضين الفاعلين للنظام الخارجيّ لا يتّبعون في فعلهم الصور العلميّة المنتزعة عن الفعل وهي علوم ذهنيّة حصوليّة تابعة للمعلوم ، لكنّ الأرباب المفروضين فواعل علميّة لهم علْمٌ بفعلهم في مرتبة ذواتهم قبل الفعل. فلِمَ لا يجوز تواطؤهم على التسالم وتوافقهم على التلاؤم في العلم قبل الفعل؟
قلت : علْمُ الفاعل العلميّ بفعله قبل الإيجاد ـ كما سيجيء (١) وقد تقدّمت الإشارة إليه (٢) ـ علمٌ حضوريّ ، ملاكُهُ وجدانُ العلّة كمالَ المعلول بنحو أعلى وأشرف ، والسنخيّة بين العلّة ومعلولها. وفرض تواطؤ الأرباب وتوافقهم في مرتبة هذا المعنى من العلم إلغاءٌ منهم لما في وجوداتهم من التكثّر والتغاير ، وقد فرض
__________________
(١) راجع الفصل الحادي عشر من هذه المرحلة ، حيث قال : «وأنّ علمه حضوريٌّ كيفما صوّر».
(٢) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الحادية عشر ، حيث قال : «الذي إليه النظر العميق أنّ الحصوليّ منه أيضاً ينتهي إلى علم حضوريّ».