هلال الصابي في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة ، إذ دخل عليه أحد التجار الذين كانوا يغشونه ويخدمونه. فقال له في عرض حديث حدّثه به : قال لي أحد التجار أن ببغداد اليوم ثلاثة آلاف حمّام. فقال له جدي : سبحان الله : هذا سدس ما كنّا عددناه وحصرناه. فقال له : كيف ذاك؟ فقال جدي : أذكر وقد كتب ركن الدولة أبو على الحسن بن بويه إلى الوزير أبي محمّد المهلبي بما قال فيه : ذكر لنا كثرة المساجد والحمامات ببغداد ، واختلفت علينا فيها الأقاويل ، وأحببنا أن نعرفها على حقيقة وتحصيل ، فتعرفنا الصحيح من ذلك. قال جدي : وأعطاني أبو محمد الكتاب. وقال لي : امض إلى الأمير معز الدولة فاعرضه عليه واستأذنه فيه ، ففعلت. فقال له الأمير :استعلم ذلك وعرّفنيه ؛ فتقدّم أبو محمّد المهلّبي إلى أبي الحسن البادغجي (١) ـ وهو صاحب المعونة ـ بعدّ المساجد والحمّامات. قال جدي : فأما المساجد فلا أذكر ما قيل فيها كثرة ، أما الحمّامات فكانت بضعة عشر ألف حمّام. وعدت إلى معز الدولة وعرفته ذلك. فقال : اكتبوا في الحمّامات بأنها أربعة آلاف ، واستدللنا من قوله على إشفاقه وحسده أباه على بلد هذا عظمه وكبره. وأخذ أبو محمّد وأخذنا نتعجب من كون الحمّامات هذا القدر ، وقد أحصيت في أيام المقتدر بالله فكانت سبعة وعشرين ألف حمام ، وليس بين الوقتين من التباعد ما يقتضي هذا التفاوت. قال هلال : وقيل : أنها كانت في أيام عضد الدولة خمسة آلاف حمّام وكسرا (٢).
قال الشيخ أبو بكر : لم يكن ببغداد في الدّنيا نظير في جلالة قدرها ، وفخامة أمرها ، وكثرة علمائها وأعلامها ، وتميّز خواصها وعوامها ، وعظم أقطارها وسعة أطرارها (٣). وكثرة دورها ومنازلها ، ودروبها وشعوبها ، ومحالها وأسواقها ، وسككها وأزقتها ، ومساجدها وحماماتها ، وطرزها وخاناتها ، وطيب هوائها ، وعذوبة مائها ، وبرد ظلالها وأفيائها ، واعتدال صيفها وشتائها ، وصحة ربيعها وخريفها ، وزيادة ما حصر من عدة سكانها. وأكثر ما كانت عمارة وأهلا في أيام الرشيد ، إذ الدّنيا قارّة المضاجع ، ودارّة المراضع ، خصيبة المراتع ، مورودة المشارع. ثم حدثت بها الفتن ، وتتابعت على أهلها المحن ، فخرب عمرانها ، وانتقل قطانها ؛ إلا أنها كانت
__________________
(١) في مطبوعة باريس : «البازغجي».
(٢) انظر الخبر في : المنتظم ٨ / ٨٢.
(٣) في الأصل : «أطرازها» وما أثبتناه من مطبوعة باريس ، وهو الموافق للمعنى. والأطرار : جمع طر ، وهو شفير النهر والوادي ، وطرف كل شيء وحرفه.