وتحوّب ، وقال : لست للعشرة خابطا ، ولا للطّرف غامضا ، ولا عن الصدق إذا صدع حائدا ، ولا للغدر ممّن وقع منه ذائدا ، ولا بمعجزات النبوّة لاعبا ، ولا لصريح الجدّ مداعبا ، ولا تطيبني مسألة ولا حلوان ، ولا تستفزّني نضائد كثيرة ولا ألوان. إنما هو رسم وخطّ ، ورفع وحطّ ، ونحس وسعد ، ونقد ووعد ، ويوم وغد. فقلنا له الآن صحّت الوفادة ، وأينعت الإرادة. ثم نظر إلينا نظر المستقلّ ، واجتذب النّطع اجتذاب المدلّ ، ونثل الطّحن وهاله ، وأداره حتى استدار هاله ، ثم قال : يا أيها الملأ هذا المبتدأ ، فأيكم يبدأ. فرمقني القوم بأبصارهم وفغروا وكبّروا ، وليتهم عند ذلك صفّروا ، فقلت : يا قوم قد عضضت على ناجذي حلما ، وقتلت شأني كلّه علما ، وعقدت بيني وبين غد سلما ، فكيف أستكشف عما أعرف ، وأسبقهم عمّا لا يستبهم. على الرحمن توكلت ، وعلى الشيطان تركّلت ، ومن كسبي أكلت ، وفي مبرك السّلامة بركت ، وجسيمات الأمور تركتني وتركت ، والنفس المطمئنة رجوت ، ولعلني قد نجوت ، وأصبت فيما نحوت. فلحظتني عند هذه المقالة عينه ، وطواني صدقه ومينه. ثم صار القوم دوني أنجية ، وأعدّ له كل تورية وتعمية. فقال قائل منهم : تعالوا نشترك في ضمير ، ونرمه بهذا الطاغية ابن رذمير ، ففي كل قلب منه ندب كبير ، والسؤال عنه دين وأدب ، فإن أصابه استرحنا من النّصب والشّخوص ، وحرنا من العموم إلى الخصوص ، وإن أخطأه فهو لما سواه أخطأ ، ولما يدّعيه ويريده منه أبطأ. فقالوا : نعم ما عرضت ، وأحسن بما رويت وفرضت. فلمّا رأيناه يثقل التّعريض ، ويحكم التقرير والتعويض ، قلنا له : حقّق ضميرك كل التحقيق ، وضع مسبحتك في الدقيق. فابتدر ما أمر ، وحسر عن ذراعه وشمّر ، ومرت أصبعه في خطّه مرّ الذّر المتهالك ، ووقعت وقع القطر المتدارك ، لا تمس الطّحن إلّا تحليلا ، وغمزا كالوهم قليلا ، فطورا يستقيم سبيلا ، وتارة يستدير إكليلا ، وآونة يأتي بالسماء ونجومها قبيلا. فكان هنالك لنعش من بنات ، وللثّريا من أخوات ، وطير قابضات ، وصافّات وأسراب ناشرات خافقات.
فلمّا استوفى عدده ، وبلغ أمده ، وختم طرائقه وقدده ، وأعطى الأصول وفروعها ، وتدبّر تفاريقها وجموعها ، فجمع وتقبّض ، وفتر ثم انتفض ، وصعّد ذهنه وتسافه ، وأخذ الطّحن فسافه ؛ وزفر وشهق ، وعشّر ونهق ، وألصق بظهره حشاه ، وكتم الرّبو ثم أفشاه ، وقال : هذا الذي كنت أخشاه ، عميتم الأثر ، وكتمتم حقيقة الخبر ، وعثرتم خاطي فما عثر ، ونثرتم نظام الحدس فما انتثر. سألتم عن روح شارد ، وشيطان مارد ، وصادر مع اللّحظات وارد ، لا يوطن دارا ، ولا يأوي قرارا ، ولا يطعم النّوم إلّا غرارا (١). نعم أمره عندي مستقر ، هو زنديق مستتر ؛ وشهاب من شهب الكفر مستمر.
__________________
(١) الغرار : السهم. لسان العرب (غرر).