أحبط عمل نجابتها دخل العقيدة ، ولا مرض السّريرة ، مذ سلّمنا المقادة لمن عطف علينا القلوب ، وصيّر إلينا ملك أبينا من غير حول ولا حيلة ، نرى أنّها أملك لحرمتنا ، وأعلم بما كنّا ، وأرحم بنا ، فتشبّثت بها القدم ، وحميت لنا من أهلها ، رعاهم الله الهمم ، وصدقت في الذّبّ عنّا العزائم ، وحاصرنا جيش العدو ، وأولياء الشياطين ، وظهر الباطل ، فبان الظّفر والاستقبال ، وظهرت الفئة القليلة ، والله مع الصابرين ، فغلبوا هناك وانقلبوا صاغرين. ومع ما لنا من الضّيق ، وأهمّنا من الأمر ، فلم نطلق به غارة ، ولا شرهنا إلى تغيير نعمة ، ولا سرّحنا عنّا اكتساح على هجمة ، ولا شعنا لبسا في بيت ولا حلّة ، وأمسكنا الأرماق بيسير الحلال الذي اشتملته خزائننا من أعشار وزكوات ، وحظوظ من زراعات ، وارتقبنا الفرج ممّن محّص بالشّدة ، والإقالة ممن نبّه من الغفلة ، وألهم الإقلاع والتّوبة. ثم وفّقنا سبحانه ، وألهمنا من أمرنا رشدا ، وسلك بنا طريقا في بحر الفتنة يبسا ، فدناه بحقن الدماء ، وتأمين الأرجاء ، وشكرنا على البلاء ؛ كشكرنا إيّاه على الآلاء. وخرجنا على الأندلس ، ولقد كاد ، لو لا عصمته ، بأن نذهب مذاهب الزّوراء ، ونستأصل الشّأفة (١) ، ونستأصل العرصة (٢) ، سبحانه ما أكمل صنعه ، وأجمل علينا ستره ، إلى أن جزنا البحر ، ولحقنا بجوار سلطان المغرب. لم تنب عنّا عين ، ولا شمخ علينا أنف ، ولا حمل علينا بركب (٣) ، ولا هتفت حولنا غاشية ، ولا نزع عنّا للتقوى والعفاف ستر ، بل كان الناس يوجبون لنا الحقّ الذي أغفله الأوغاد من أبناء دولتنا ، والضّفادع ببركة نعمتنا ، حتى إذا الناس عافوا الصّيحة ، وتملّوا الحسرة ، وسيموا الخسار والخيبة ، وسامهم الطّغام (٤) الذين يرجون لله وقارا ، ولا يألون لشعائره المعظّمة احتقارا ، كلاب الأطماع ، وعبدة الطاغوت (٥) ، ومدبّر وحجون الجهل ، ومياسيس أسواق البعد عن الرّب ، وعرائس محرم الزينة ، ودود القزّ ، وثغار النّهم الأعزّة على المؤمنين بالباطل ، الأذلّة في أنفسهم بالحق ، ممن لا يحسن المحاولة ، ولا يلازم الصّهوة ، ولا يحمل السلاح ، ولا ينزه مجتمع الحشمة عن الفحشاء ، ولا يطعم المسكين ، ولا يشعر بوجود الله ، جاروا من شقيّهم المحروم ، على مضعوف ملتفّ في الحرم المحصور ، محتف بلطف المهد ، معلّل بالخداع ، مسلوب الجرأة بأيدي انتهازهم ، شؤم على الإسلام ، ومعرّة في وجه الدين ، أخذ الله
__________________
(١) الشأفة : قرحة تخرج في أسفل القدم ، وإذا قطعت مات صاحبها ، وقوله : استأصل شأفته : أي أذهبه كما تذهب تلك القرحة ، أو أزاله من أصله. محيط المحيط (شأف).
(٢) العرصة : ساحة الدار. محيط المحيط (عرص).
(٣) الركب : الجماعة من عشرة فصاعدا. محيط المحيط (ركب).
(٤) الطّغام : أوغاد الناس ، الواحد والجمع فيه سواء. محيط المحيط (طغم).
(٥) الطاغوت : اللّات والعزّى ، والشيطان ، والأصنام. محيط المحيط (طغا).