فلما أسبت الرمل جاز عليه إلى الخراب المتصل بالبحر الأسود ، فسمع جلبة وصياحا هائلا فتبع الصياح في عسكر من شجعان جيشه فأشرف على وادي السباع المعروفة بالأنوف ، وإذا بعضها يهر على بعض ، ويأكل بعضها بعضا فعلم أنه لا مذهب له من ورائها. فرجع القهقرى وعدى وادي الرمل ، ومرّ بأرض العقارب ، فهلك بعض أصحابه وخلص بعضهم برقاء كانوا يعرفونها.
ثم أن الريان استدرك فجدّ في مسيره حتى انتهى إلى مكان صلقوه وهي حيّة فرقوا أنفسهم فسلموا وعرجوا عنها بعد أن هجموا عليها جاهلين بأمرها ، ثم علموا أنها حية.
وتزعم القبط أن الريان سحرها فماتت مكانها. وقيل : إنه تعزّ بجهاميل من الناس ، وأنها كانت تبتلع السباع في ذلك المكان. ثم سار إلى مدينة الكند ، وهي مدينة الحكماء ، فلما رأوه هربوا منه فصعدوا جبلا لهم من مواضع يعرفونها من داخل مدينتهم.
فأراد الريان أن يصعد إليهم فعجزوا ولم يروا مسلكا يصعد منه ، ولا عرف طريقهم. فأقام عليها أياما ، وكادوا يهلكون من العطش لقلة الماء ، فنزل بالريان رجل من الجبل يقال له ميدوس ، وكان من أفاضل الحكماء ، وقد اكتسى جسده بشعره ، فواجه الريان ، وقال له : أين تريد أيها المغرور بنفسه وبغيره الممدود / أجله المرزوق فوق كفايته وقد أتعبت نفسك وجيشك ، هلا اخترت بما ملكت راحة نفسك ، وأسلمت أمرك لخالقك؟ فاستحسن كلامه. ثم أنه سأله عن موضع الماء ، فدله عليه فشربوا وسقوا دوابهم ، ثم سأل عن مواضعهم.
قال : فليس لك إليه سبيل ولا لأحد قبلك كان له إليه وصول.
قال : فما معاشكم؟
قال : أصول النبات.
قال : فمن أين تشربون؟
قال : من نقار الماء الذي من الأمطار والثلوج.
قال : فلأي شيء هربتم منّا؟
قال : حتى لا نرى أحدا منكم ، وليس لنا شيء نخافكم عليه.
قال : فإذا حميت الشمس فأين تأوون؟
قال : في غيران تحت هذا الجبل.
قال : فهل تحتاجون إلى شيء من المال أخلف لكم؟
قال : إنما يريد المال أهل البذخ ونحن لا نستعمل منه شيئا استغناء ، وعندنا من المال ما لو رأيته لحقرت ما عندك.