وأيضا لو كان نظريّا لما حصل لمن لا قدرة له على النظر كالعوامّ والصبيان. وأيضا يلزم أن لا يعلمه من ترك النظر قصدا إذ كلّ علم نظري ، فإنّ العالم به يجد نفسه أوّلا شاكّا ثمّ طالبا ، ونحن لا نجد أنفسنا طالبين لوجود مكّة.
ويمكن دفع الأوّل : بأنّا نمنع عدم الاحتياج إلى توسّط المقدّمتين في المتواترات مطلقا ، نعم يتمّ فيما حصل القطع من جهة التواتر اضطرارا ، فإنّ المتواترات على قسمين :
قسم منها : ما يحصل بعد حصول مبادئها اضطرارا وبدون الكسب ، كالمشاهدات وضروريات الدّين ووجود مكّة وهند وأمثال ذلك.
ومنها : ما هو مسبوق بالكسب ، كالمسائل العلميّة التي لا بدّ أن يحصل التتبّع فيها من جهة ملاحظة الكتب وملاقاة أهل العلم والاستماع منهم اصولية كانت أو فروعيّة. ولا ريب أنّ التتبّع واستماع الخبر يتدرّج في حصول الرّجحان في النظر إلى حيث يشرف المتتبّع على حصول العلم ، فيلاحظ حينئذ المقدّمات من كون هذه الأخبار مسموعة ومنوطة بالحسّ ، وأنّ هؤلاء الجماعة الكثيرين لا يتواطئون على الكذب ، ثمّ يحصل له القطع بمضمونها ، فهذا متواتر نظري.
ومن علامات النظريّ ، أنّ بعد حصول العلم أيضا إذا ذهل عن المقدّمتين قد يتزلزل القطع ويحتاج إلى مراجعة المقدّمات ، وهو ممّا يحصل في كثير من المتواترات ، بخلاف الضروريّ. فالضروريّ وإن كان أيضا لا ينفكّ عن المقدّمات ، لكنّها لا تحتاج إلى المراجعة إليها والاعتماد عليها ما دام ضروريا ، فإن كان مراد المشهور هو ذلك (١) فمرحبا بالوفاق ، وإن كان مرادهم أنّ كلّ متواتر لا يحتاج
__________________
(١) أي القول بأنّ العلم بالمتواترات ضروري هو القسم الذي لا يتزلزل القطع بعد حصوله فنعم الوفاق.