فنقول حينئذ : إنّ هذا اللفظ على قسمين : قسم يحتمل أن يكون ممّا يقصد به بقاءه في الدّهر (١) والاستفادة منه ، كتأليفات المصنّفين ، وقسم لا يقصد به ذلك ، بل إنّما قصد به تفهيم المخاطبين وان كان غيرهم أيضا مشاركون لهم في أصل الحكم. فأمّا الكتاب العزيز ، فهو وإن كان يمكن أن يكون من القسم الأوّل (٢) ، وذلك لأنّا وإن لم نقل بعموم خطاب المشافهة للغائبين كما حقّقناه في محلّه ، لكنّا نقول بأنّ الله تعالى يريد من جميع الأمّة فهمه والتدبّر فيه والعمل على مقتضاه ، خلافا للأخباريين كما بيّناه سابقا ، فيكون هذا الظنّ أيضا حجّة بالخصوص ، لأنّ طريقة العرف والعادة في تأليف الكتب وإرسال المكاتيب والرسائل إلى البلاد البعيدة ، سيّما مع مخالفة الألسنة ومباينة الاصطلاحات تقتضي ذلك ، فإنّ المصنّفين وأهل المكاتيب والرسائل لا يريدون ممّن يبلغ إليه كتابهم إلّا العمل على مقتضاه بقدر فهمهم ووسعهم ، فالذي يجب على الله أن يكتفي عنّا بما نفهمه من كتابه إمّا يقينا أو ظنّا ، ولكن لم يثبت ذلك ثبوتا علميّا لاحتمال أن يكون الكتاب العزيز من باب القسم الثاني (٣) سيّما الخطابات الشّفاهية منه (٤) ، وسيّما ما اشتمل على الأحكام الفرعية ، ولا ينافي ذلك تعلّق الغرض ببقائه أبد الدّهر أيضا لحصول الإعجاز وسائر الفوائد مع ذلك أيضا.
فإن قلت : إنّ أخبار الثّقلين وغيرها ممّا دلّ على العرض على كتاب الله تعالى ،
__________________
(١) خلف بعد سلف الى يوم القيامة.
(٢) من باب الظنّ الخاص.
(٣) فيكون الظنّ الحاصل من الكتاب حينئذ من باب الظنّ المطلق لا الخاص.
(٤) المخصوصة بالمخاطبين مثل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وغير ذلك ، وهذا في مقابل الخطابات غير الشفاهية.