في قوله : (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ).
ويحتمل أن يكون ناشئا عن رأي من يثبت منهم رسالة محمّد صلىاللهعليهوسلم ويقول : إنّه رسول للأميّين خاصّة. وهؤلاء هم اليهود العيسوية ، فيكون حكمه مؤيّدا لهم ، لأنّه يعدّ كالإخبار عن التّوراة ، ويؤيّده ما رواه أبو داود عن أبي هريرة أنّ يهوديا زنى بيهوديّة فقال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمّد فإنّه بعث بالتّخفيف ، فإن أفتى بالجلد دون الرجم قبلنا واحتججنا بها عند الله وقلنا فتيا نبيء من أنبيائك ، وإمّا أن يكون ذلك من نوع الاعتضاد بموافقة شريعة الإسلام فيكون ترجيح أحد التأويلين بموافقته لشرع آخر. ويؤيّده ما رواه أبو داود والترمذي أنّهم قالوا : ذهب سلطاننا فكرهنا القتل ؛ وإمّا أن يكونوا قد عدلوا عن حكم شريعتهم توقّفا عند التّعارض فمالوا إلى التّحكيم. ولعلّ ذلك مباح في شرعهم ، ويؤيّده أنّه ورد في حديث البخاري وغيره أنّهم لمّا استفتوا النّبيء صلىاللهعليهوسلم انطلق مع أصحابه حتّى جاء المدارس ـ وهو بيت تعليم اليهود ـ وحاجّهم في حكم الرّجم ، وأجابه حبران منهم يدعيان بابني صوريا بالاعتراف بثبوت حكم الرجم ، في التّوراة ؛ وإمّا أن يكونوا حكّموا النّبيءصلىاللهعليهوسلم قصدا لاختباره فيما يدّعي من العلم بالوحي ، وكان حكم الرجم عندهم مكتوما لا يعلمه إلّا خاصّة أحبارهم ، ومنسيا لا يذكر بين علمائهم ، فلمّا حكم عليهم به بهتوا ، ويؤيّد ذلك ما ظهر من مرادهم في إنكارهم وجود حكم الرّجم. ففي «صحيح البخاري» أنّهم أنكروا أن يكون حكم الرجم في التّوراة وأنّ النّبيء صلىاللهعليهوسلم جاء المدارس فأمر بالتّوراة فنشرت فجعل قارئهم يقرأ ويضع يده على آية الرجم وأنّ النّبيء صلىاللهعليهوسلم أطلعه الله على ذلك فأمره أن يرفع يده وقرئت آية الرجم واعترف ابنا صوريا بها. وأيّا ما كان فهذه الحادثة مؤذنة باختلال نظام الشّريعة بين اليهود يومئذ وضعف ثقتهم بعلومهم.
ومعنى (لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ) نهيه عن أن يحصل له إحزان مسند إلى الّذين يسارعون في الكفر. والإحزان فعل الّذين يسارعون في الكفر ، والنّهي عن فعل الغير إنّما هو نهي عن أسبابه ، أي لا تجعلهم يحزنونك ، أي لا تهتمّ بما يفعلون ممّا شأنه أن يدخل الحزن على نفسك. وهذا استعمال شائع وهو من استعمال المركّب في معناه الكنائي. ونظيره قولهم: لا أعرفنّك تفعل كذا ، أي لا تفعل حتّى أعرفه. وقولهم : لا ألفينّك هاهنا ، ولا أرينّك هنا.
وإسناد الإحزان إلى الّذين يسارعون في الكفر مجاز عقلي ليست له حقيقة لأنّ الّذين يسارعون سبب في الإحزان ، وأمّا مثير الحزن في نفس المحزون فهو غير معروف في