مثل هذا التّرك ، هو ترك الحكم المشوب بالطعن في صلاحيته. وقد عرف اليهود بكثرة مخالفة حكّامهم لأحكام كتابهم بناء على تغييرهم إيّاها باعتقاد عدم مناسبتها لأحوالهم كما فعلوا في حدّ الزّنى ؛ فيكون القصر ادّعائيا وهو المناسب لسبب نزول الآيات الّتي كانت هذه ذيلا لها ؛ فيكون الموصول لتعريف أصحاب هذه الصّلة وليس معلّلا للخبر. وزيدت الفاء في خبره لمشابهته بالشّرط في لزوم خبره له ، أي أنّ الّذين عرفوا بهذه الصّفة هم الّذين إن سألت عن الكافرين فهم هم لأنّهم كفروا وأساءوا الصنع.
وقال جماعة : المراد من لم يحكم بما أنزل الله من ترك الحكم به جحدا له ، أو استخفافا به ، أو طعنا في حقّيته بعد ثبوت كونه حكم الله بتواتر أو سماعه من رسول الله ، سمعه المكلّف بنفسه. وهذا مروي عن ابن مسعود ، وابن عبّاس ، ومجاهد ، والحسن ، فمن شرطية وترك الحكم مجمل بيانه في أدلّة أخر. وتحت هذا حالة أخرى ، وهي التزام أن لا يحكم بما أنزل الله في نفسه كفعل المسلم الّذي تقام في أرضه الأحكام الشرعية فيدخل تحت محاكم غير شرعيّة باختياره فإنّ ذلك الالتزام أشدّ من المخالفة في الجزئيات ، ولا سيما إذا لم يكن فعله لجلب منفعة دنيوية. وأعظم منه إلزام النّاس بالحكم بغير ما أنزل الله من ولاة الأمور ، وهو مراتب متفاوتة ، وبعضها قد يلزمه لازم الردة إن دلّ على استخفاف أو تخطئة لحكم الله.
وذهب جماعة إلى التأويل في معنى الكفر ؛ فقيل عبّر بالكفر عن المعصية ، كما قالت زوجة ثابت بن قيس «أكره الكفر في الإسلام» أي الزّنى ، أي قد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفّار ولا يليق بالمؤمنين ، وروى هذا عن ابن عبّاس. وقال طاوس «هو كفر دون كفر وليس كفرا ينقل عن الإيمان». وذلك أنّ الّذي لا يحكم بما أنزل الله قد يفعل ذلك لأجل الهوى ، وليس ذلك بكفر ولكنّه معصية ، وقد يفعله لأنّه لم يره قاطعا في دلالته على الحكم ، كما ترك كثير من العلماء الأخذ بظواهر القرآن على وجه التّأويل وحكموا بمقتضى تأويلها وهذا كثير.
وهذه الآية والّتي بعدها في شأن الحاكمين. وأمّا رضى المتحاكمين بحكم الله فقد مرّ في قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء : ٦٥] الآية وبيّنّا وجوهه ، وسيأتي في قوله تعالى : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ـ إلى قوله ـ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) في سورة النّور [٤٨ ـ ٥٠].
وأمّا القضيّة الثّانية : فالمقصود بالقصر هنا المبالغة في الوصف بهذا الإثم العظيم