أن يكون الخطاب للنّبيين والربّانيّين والأحبار فهي على تقدير القول ، أي قلنا لهم : فلا تخشوا النّاس. والتّفريع ناشئ عن مضمون قوله : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) ، لأنّ تمام الاستحفاظ يظهر في عدم المبالاة بالنّاس رضوا أم سخطوا ، وفي قصر الاعتداد على رضا الله تعالى.
وتقدّم الكلام في معنى (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) في سورة البقرة [٤١].
وقوله (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) يجوز أن يكون من جملة المحكي بقوله : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) ، لأنّ معنى خشية النّاس هنا أن تخالف أحكام شريعة التّوراة أو غيرها من كتب الله لإرضاء أهوية النّاس ، ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا عقّبت به تلك العظات الجليلة. وعلى الوجهين فالمقصود اليهود وتحذير المسلمين من مثل صنعهم.
و (من) الموصولة يحتمل أن يكون المراد بها الفريق الخاصّ المخاطب بقوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) ، وهم الّذين أخفوا بعض أحكام التّوراة مثل حكم الرّجم ؛ فوصفهم الله بأنّهم كافرون بما جحدوا من شريعتهم المعلومة عندهم. والمعنى أنّهم اتّصفوا بالكفر من قبل فإذا لم يحكموا بما أنزل الله فذلك من آثار كفرهم السابق. ويحتمل أن يكون المراد بها الجنس وتكون الصّلة إيماء إلى تعليل كونهم كافرين فتقتضي أنّ كلّ من لا يحكم بما أنزل الله يكفّر. وقد اقتضى هذا قضيتين :
إحداهما : كون الّذي يترك الحكم بما تضمّنته التّوراة ممّا أوحاه الله إلى موسى كافرا ، أو تارك الحكم بكلّ ما أنزله الله على الرّسل كافرا ؛ والثّانية : قصر وصف الكفر على تارك الحكم بما أنزل الله.
فأمّا القضية الأولى : فالّذين يكفّرون مرتكب الكبيرة يأخذون بظاهر هذا. لأنّ الجور في الحكم كبيرة والكبيرة كفر عندهم. وعبّروا عنه بكفر نعمة يشاركه في ذلك جميع الكبائر ، وهذا مذهب باطل كما قرّرناه غير مرّة. وأمّا جمهور المسلمين وهم أهل السنّة من الصّحابة فمن بعدهم فهي عندهم قضيّة مجملة ، لأنّ ترك الحكم بما أنزل الله يقع على أحوال كثيرة ؛ فبيان إجماله بالأدلّة الكثيرة القاضية بعدم التكفير بالذنوب ، ومساق الآية يبيّن إجمالها. ولذلك قال جمهور العلماء : المراد بمن لم يحكم هنا خصوص اليهود ، قاله البراء بن عازب ورواه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. أخرجه مسلم في «صحيحه». فعلى هذا تكون (من) موصولة ، وهي بمعنى لام العهد. والمعنى عليه : ومن ترك الحكم بما أنزل الله تركا