لكن اقتصر المتأخّرون على الفتح للتّفرقة بينه وبين اسم المداد الّذي يكتب به. وعطف (الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) على (النَّبِيُّونَ) لأنّهم ورثة علمهم وعليهم تلقّوا الدّين.
والاستحفاظ : الاستئمان ، واستحفاظ الكتاب أمانة فهمه حقّ الفهم بما دلّت عليه آياته. استعير الاستحفاظ الّذي هو طلب الحفظ لمعنى الأمر بإجادة الفهم والتّبليغ للأمّة على ما هو عليه.
فالباء في قوله (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) للملابسة ، أي حكما ملابسا للحقّ متّصلا به غير مبدّل ولا مغيّر ولا مؤوّل تأويلا لأجل الهوى. ويدخل في الاستحفاظ بالكتاب الأمر بحفظ ألفاظه من التغيير والكتمان. ومن لطائف القاضي إسماعيل بن إسحاق بن حمّاد ما حكاه عياض في «المدارك» ، عن أبي الحسن بن المنتاب ، قال : كنت عند إسماعيل يوما فسئل : لم جاز التّبديل على أهل التّوراة ولم يجز على أهل القرآن ، فقال : لأنّ الله تعالى قال في أهل التّوراة (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) فوكل الحفظ إليهم. وقال في القرآن : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩]. فتعهّد الله بحفظه فلم يجز التّبديل على أهل القرآن. قال : فذكرت ذلك للمحاملي ، فقال : لا أحسن من هذا الكلام.
و (مِنْ) مبيّنة لإبهام (ما) في قوله : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا). و (كِتابِ اللهِ) هو التّوراة ، فهو من الإظهار في مقام الإضمار ، ليتأتّى التّعريف بالإضافة المفيدة لتشريف التّوراة وتمجيدها بإضافتها إلى اسم الله تعالى.
وضمير (وَكانُوا) للنبيين والربانيّين والأحبار ، أي وكان المذكورون شهداء على كتاب الله ، أي شهداء على حفظه من التّبديل ، فحرف (على) هنا دالّ على معنى التمكّن وليس هو (على) الّذي يتعدّى به فعل شهد ، إلى المحقوق كما يتعدّى ذلك الفعل باللام إلى المشهود له ، أي المحقّ ، بل هو هنا مثل الّذي يتعدّى به فعل (حفظ ورقب) ونحوهما ، أي وكانوا حفظة على كتاب الله وحرّاسا له من سوء الفهم وسوء التّأويل ويحملون أتباعه على حقّ فهمه وحقّ العمل به.
ولذلك عقّبه بجملة (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) المتفرّعة بالفاء على قوله : (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) ، إذ الحفيظ على الشيء الأمين حقّ الأمانة لا يخشى أحدا في القيام بوجه أمانته ولكنّه يخشى الّذي استأمنه. فيجوز أن يكون الخطاب بقوله : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) ليهود زمان نزول الآية ، والفاء للتفريع عمّا حكي عن فعل سلف الأنبياء والمؤمنين ليكونوا قدوة لخلفهم من الفريقين ، والجملة على هذا الوجه معترضة ؛ ويجوز