واليهود أهل إيمان ودين فلا يجوز في دينهم وصف الله تعالى بصفات الذمّ. فقولهم هذا : إمّا أن يكون جرى مجرى التهكّم بالمسلمين إلزاما لهذا القول الفاسد لهم ، كما روي أنّهم قالوا ذلك لمّا كان المسلمون في أوّل زمن الهجرة في شدّة ، وفرض الرسول عليهم الصدقات ، وربّما استعان باليهود في الديات. وكما روي أنّهم قالوه لمّا نزل قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥] فقالوا : إنّ ربّ محمّد فقير وبخيل. وقد حكي عنهم نظيره في قوله تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [البقرة : ١٨١]. ويؤيّد هذا قوله عقبه (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً). وإمّا أن يكونوا قالوه في حالة غضب ويأس ؛ فقد روي في سبب نزولها أنّ اليهود نزلت بهم شدّة وأصابتهم مجاعة وجهد ، فقال فنحاص بن عازورا هذه المقالة ، فإمّا تلقّفوها منه على عادة جهل العامّة ، وإمّا نسب قول حبرهم إلى جميعهم لأنّهم يقلّدونه ويقتدون به.
وقد ذمّهم الله تعالى على كلا التقديرين ، إذ الأول استخفاف بالإسلام وبدينهم أيضا ، إذ يجب تنزيه الله تعالى عن هذه المقالات ، ولو كانت على نيّة إلزام الخصم ، والثّاني ظاهر ما فيه من العجرفة والتأفّف من تصرّف الله ، فقابل الله قولهم بالدّعاء عليهم. وذلك ذمّ على طريقة العرب.
وجملة (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) معترضة بين جملة (وَقالَتِ الْيَهُودُ) وبين جملة (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ). وهي إنشاء سبّ لهم. وأخذ لهم من الغلّ المجازي مقابله الغلّ الحقيقي في الدعاء على طريقة العرب في انتزاع الدعاء من لفظ سببه أو نحوه ، كقول النّبيءصلىاللهعليهوسلم : «عصيّة عصت الله ورسوله ، وأسلم سلّمها الله ، وغفار غفر الله لها».
وجملة (وَلُعِنُوا بِما قالُوا) يجوز أن تكون إنشاء دعاء عليهم ، ويجوز أن تكون إخبارا بأنّ الله لعنهم لأجل قولهم هذا ، نظير ما في قوله تعالى : (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللهُ) في سورة النّساء [١١٧ ، ١١٨].
وقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) نقض لكلامهم وإثبات سعة فضله تعالى. وبسط اليدين تمثيل للعطاء ، وهو يتضمّن تشبيه الإنعام بأشياء تعطى باليدين.
وذكر اليد هنا بطريقة التثنية لزيادة المبالغة في الجود ، وإلّا فاليد في حال الاستعارة للجود أو للبخل لا يقصد منها مفرد ولا عدد ، فالتثنية مستعملة في مطلق التّكرير ، كقوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤] ، وقولهم : «لبّيك وسعديك». وقال الشّاعر