مع أنّ الجملة لا تشتمل على صيغة حصر. وقد وجّهه العلامة التفتازانيّ في «شرح الكشّاف» بقوله : «الحصر الّذي أشار إليه مستفاد من المقام والعطف» (أي من مجموع الأمرين). وفي قول التفتازانيّ : والعطف ، نظر.
والصدّيقة صيغة مبالغة ، مثل شرّيب ومسّيك ، مبالغة في الشّرب والمسك ، ولقب امرئ القيس بالملك الضّلّيل ، لأنّه لم يهتد إلى ما يسترجع به ملك أبيه. والأصل في هذه الصيغة أن تكون مشتقّة من المجرّد الثّلاثي. فالمعنى المبالغة في وصفها بالصدق ، أي صدق وعد ربّها ، وهو ميثاق الإيمان وصدق وعد النّاس. كما وصف إسماعيل ـ عليهالسلام ـ بذلك في قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) [مريم : ٥٤]. وقد لقّب يوسف بالصدّيق ، لأنّه صدق وعد ربّه في الكفّ عن المحرّمات مع توفر أسبابها. وقيل : أريد هنا وصفها بالمبالغة في التّصديق لقوله تعالى : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) [التحريم : ١٢] ، كما لقّب أبو بكر بالصدّيق لأنّه أوّل من صدّق رسول الله صلىاللهعليهوسلم كما في قوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) [الزمر : ٣٣] ، فيكون مشتقّا من المزيد.
وقوله : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) جملة واقعة موقع الاستدلال على مفهوم القصر الّذي هو نفي إلهيّة المسيح وأمّه ، ولذلك فصلت عن الّتي قبلها لأن الدّليل بمنزلة البيان ، وقد استدلّ على بشريتهما بإثبات صفة من صفات البشر ، وهي أكل الطّعام. وإنّما اختيرت هذه الصّفة من بين صفات كثيرة لأنّها ظاهرة واضحة للنّاس ، ولأنّها أثبتتها الأناجيل ؛ فقد أثبتت أنّ مريم أكلت ثمر النخلة حين مخاضها ، وأنّ عيسى أكل مع الحواريين يوم الفصح خبزا وشرب خمرا ، وفي إنجيل لوقا إصحاح ٢٢ «وقال لهم اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألّم لأنّي لا آكل منه بعد ، وفي الصبح إذ كان راجعا في المدينة جاع».
وقوله : (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) استئناف للتعجيب من حال الّذين ادّعوا الإلهيّة لعيسى. والخطاب مراد به غير معيّن ، وهو كلّ من سمع الحجج السابقة. واستعمل الأمر بالنّظر في الأمر بالعلم لتشبيه العالم بالرأي والعلم بالرؤية في الوضوح والجلاء ، وقد تقدّمت نظائره. وقد أفاد ذلك معنى التعجيب. ويجوز أن يكون الخطاب للرّسول ـ عليهالسلام ـ. والمراد هو وأهل القرآن. و (كَيْفَ) اسم استفهام معلّق لفعل (انْظُرْ) عن العمل في مفعولين ، وهي موضع المفعول به ل (انْظُرْ) ، والمعنى انظر جواب هذا الاستفهام. وأريد مع الاستفهام التعجيب كناية ، أي انظر ذلك تجد جوابك أنّه بيان عظيم الجلاء يتعجّب النّاظر من وضوحه. والآيات جمع آية ، وهي العلامة على وجود