المطلوب ، استعيرت للحجّة والبرهان لشبهه بالمكان المطلوب على طريق المكنية ، وإثبات الآيات له تخييل ، شبّهت بآيات الطّريق الدّالة على المكان المطلوب.
وقوله : (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (ثمّ) فيه للترتيب الرتبي والمقصود أنّ التأمّل في بيان الآيات يقتضي الانتقال من العجب من وضوح البيان إلى أعجب منه وهو انصرافهم عن الحقّ مع وضوحه. و (يُؤْفَكُونَ) يصرفون ، يقال : أفكه من باب ضرب ، صرفه عن الشّيء.
و (أَنَّى) اسم استفهام يستعمل بمعنى من أين ، ويستعمل بمعنى كيف. وهو هنا يجوز أن يكون بمعنى كيف (كما) في «الكشاف» ، وعليه فإنّما عدل عن إعادة (كَيْفَ) تفنّنا. ويجوز أن تكون بمعنى من أين ، والمعنى التعجيب من أين يتطرّق إليهم الصّرف عن الاعتقاد الحقّ بعد ذلك البيان المبالغ غاية الوضوح حتّى كان بمحلّ التّعجيب من وضوحه. وقد علّق ب (أَنَّى) فعل (انْظُرْ) الثّاني عن العمل وحذف متعلّق (يُؤْفَكُونَ) اختصارا ، لظهور أنّهم يصرفون عن الحقّ الّذي بيّنته لهم الآيات.
(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦))
لمّا كان الكلام السابق جاريا على طريقة خطاب غير المعيّن كانت جملة (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) إلخ مستأنفة ، أمر الرّسول بأن يبلّغهم ما عنوا به.
والظاهر أنّ (أَتَعْبُدُونَ) خطاب لجميع من يعبد شيئا من دون الله من المشركين والنّصارى. والاستفهام للتّوبيخ والتّغليط مجازا.
ومعنى (مِنْ دُونِ اللهِ) غير الله. فمن للتّوكيد ، و (دون) اسم للمغاير ، فهو مرادف لسوى ، أي أتعبدون معبودا هو غير الله ، أي أتشركون مع الله غيره في الإلهيّة. وليس المعنى أتعبدون معبودا وتتركون عبادة الله. وانظر ما فسّرنا به عند قوله تعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) في سورة الأنعام [١٠٨] ، فالمخاطبون كلّهم كانوا يعبدون الله ويشركون معه غيره في العبادة حتّى الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم فهم ما عبدوا المسيح إلّا لزعمهم أنّ الله حلّ فيه فقد عبدوا الله فيه ، فشمل هذا الخطاب المشركين من العرب ونصارى العرب كلّهم.