ولذلك جيء ب (ما) الموصولة دون (من) لأنّ معظم ما عبد من دون الله أشياء لا تعقل ، وقد غلب (ما) لما لا يعقل. ولو أريد ب (ما لا يَمْلِكُ) عيسى وأمّه كما في «الكشاف» وغيره وجعل الخطاب خاصّا بالنّصارى كان التّعبير عنه ب (ما) صحيحا لأنّها تستعمل استعمال (من) ، وكثير في الكلام بحيث يكثر على التّأويل. ولكن قد يكون التّعبير بمن أظهر.
ومعنى (لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا) لا يقدر عليه ، وحقيقة معنى الملك التمكّن من التّصرف بدون معارض ، ثم أطلق على استطاعة التّصرّف في الأشياء بدون عجز ، كما قال قيس بن الخطيم :
ملكت بها كفّي فأنهر فتقها |
|
يرى قائم من دونها ما وراءها |
فإنّ كفّه مملوكة له لا محالة ، ولكنّه أراد أنّه تمكّن من كفّه تمام التّمكن فدفع به الرّمح دفعة عظيمة لم تخنه فيها كفّه. ومن هذا الاستعمال نشأ إطلاق الملك بمعنى الاستطاعة القويّة الثّابتة على سبيل المجاز المرسل كما وقع في هذه الآية ونظائرها (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) [الفرقان : ٣](قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً) [يونس : ٤٩](إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) [العنكبوت : ١٧]. فقد تعلّق فعل الملك فيها بمعان لا بأشياء وذوات ، وذلك لا يكون إلّا على جعل الملك بمعنى الاستطاعة القويّة ألا ترى إلى عطف نفي على نفي الملك على وجه التّرقّي في قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) في سورة النّحل [٧٣]. وقد تقدّم آنفا استعمال آخر في قوله : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) [المائدة : ١٧].
وقدّم الضرّ على النّفع لأنّ النّفوس أشدّ تطلّعا إلى دفعه من تطلّعها إلى جلب النّفع ، فكان أعظم ما يدفعهم إلى عبادة الأصنام أنّ يستدفعوا بها الأضرار بالنّصر على الأعداء وبتجنّبها إلحاق الإضرار بعابديها.
ووجه الاستدلال على أنّ معبوداتهم لا تملك ضرّا ولا نفعا ، وقوع الأضرار بهم وتخلّف النّفع عنهم.
فجملة (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) في موضع الحال ، قصر بواسطة تعريف الجزأين وضمير الفصل ، سبب النّجدة والإغاثة في حالي السؤال وظهور الحالة ، على الله تعالى