وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) [البقرة : ٢١٩] نسختهما في المائدة (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ).
فلا جرم كان هذا التحريم بمحلّ العناية من الشارع متقدّما للأمّة في إيضاح أسبابه رفقا بهم واستئناسا لأنفسهم ، فابتدأهم بآية سورة البقرة ، ولم يسفّههم فيما كانوا يتعاطون من ذلك ، بل أنبأهم بعذرهم في قوله : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) [البقرة : ٢١٩] ، ثم بآية سورة النساء ، ثم كرّ عليها بالتحريم بآية سورة المائدة فحصر أمرهما في أنّهما رجس من عمل الشيطان ورجا لهم الفلاح في اجتنابهما بقوله : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، وأثار ما في الطباع من بغض الشيطان بقوله : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ). ثم قال (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ، فجاء بالاستفهام لتمثيل حال المخاطبين بحال من بيّن له المتكلّم حقيقة شيء ثم اختبر مقدار تأثير ذلك البيان في نفسه.
وصيغة : هل أنت فاعل كذا. تستعمل للحثّ على فعل في مقام الاستبطاء ، نبّه عليه في «الكشاف» عند قوله تعالى : (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) في سورة الشعراء [٣٩] ، قال : ومنه قول تأبّط شرّا :
هل أنت باعث دينار لحاجتنا |
|
أو عبد ربّ أخا عون بن مخراق |
(دينار اسم رجل ، وكذا عبد ربّ. وقوله : أخا عون أو عوف نداء ، أي يا أخا عون). فتحريم الخمر متقرّر قبل نزول هذه السورة ، فإنّ وفد عبد القيس وفدوا قبل فتح مكة في سنة ثمان ، فكان ممّا أوصاهم به رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن لا ينتبذوا في الحنتم والنقير والمزفّت والدّبّاء ، لأنّها يسرع الاختمار إلى نبيذها.
والمراد بالأنصاب هنا عبادة الأنصاب. والمراد بالأزلام الاستقسام بها ، لأنّ عطفها على الميسر يقتضي أنّها أزلام غير الميسر. قال في «الكشاف» : ذكر الأنصاب والأزلام مع الخمر والميسر مقصود منه تأكيد التحريم للخمر والميسر. وتقدّم الكلام على الخمر والميسر في آية سورة البقرة ، وتقدم الكلام على الأنصاب عند قوله تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣] ، والكلام على الأزلام عند قوله : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) في أول هذه السورة [٣]. وأكّد في هذه الآية تحريم ما ذبح على النصب وتحريم الاستقسام بالأزلام وهو التحريم الوارد في أوّل السورة والمقرّر في الإسلام من أوّل البعثة.
والمراد بهذه الأشياء الأربعة هنا تعاطيها ، كلّ بما يتعاطى به من شرب ولعب وذبح