واستقسام. والقصر المستفاد من (إِنَّما) قصر موصوف على صفة ، أي أنّ هذه الأربعة المذكورات مقصورة على الاتّصاف بالرجس لا تتجاوزه إلى غيره ، وهو ادّعائي للمبالغة في عدم الاعتداد بما عدا صفة الرجس من صفات هذه الأربعة. ألا ترى أنّ الله قال في سورة البقرة [٢١٩] في الخمر والميسر (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) ، فأثبت لهما الإثم ، وهو صفة تساوي الرجس في نظر الشريعة ، لأنّ الإثم يقتضي التباعد عن التلبّس بهما مثل الرجس. وأثبت لهما المنفعة ، وهي صفة تساوي نقيض الرجس ، في نظر الشريعة ، لأنّ المنفعة تستلزم حرص الناس على تعاطيهما ، فصحّ أنّ للخمر والميسر صفتين. وقد قصر في آية المائدة على ما يساوي إحدى تينك الصفتين أعني الرجس ، فما هو إلّا قصر ادّعائي يشير إلى ما في سورة البقرة [٢١٩] من قوله : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) ، فإنّه لمّا نبّهنا إلى ترجيح ما فيهما من الإثم على ما فيهما من المنفعة فقد نبّهنا إلى دحض ما فيهما من المنفعة قبالة ما فيهما من الإثم حتّى كأنّهما تمحّضا للاتّصاف ب (فِيهِما إِثْمٌ) [البقرة : ٢١٩] ، فصحّ في سورة المائدة أن يقال في حقّهما ما يفيد انحصارهما في أنّهما فيهما إثم ، أي انحصارهما في صفة الكون في هذه الظرفية كالانحصار الذي في قوله : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) [الشعراء : ١١٣] ، أي حسابهم مقصور على الاتّصاف بكونه على ربّي ، أي انحصر حسابهم في معنى هذا الحرف. وذلك هو ما عبّر عنه بعبارة الرجس.
والرجس الخبث المستقذر والمكروه من الأمور الظاهرة ، ويطلق على المذمّات الباطنة كما في قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] ، وقوله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) [الأحزاب : ٣٣]. والمراد به هنا الخبيث في النفوس واعتبار الشريعة. وهو اسم جنس فالإخبار به كالإخبار بالمصدر ، فأفاد المبالغة في الاتّصاف به حتّى كأنّ هذا الموصوف عين الرجس. ولذلك أيضا أفرد (رجس) مع كونه خبرا عن متعدّد لأنّه كالخبر بالمصدر.
ومعنى كونها من عمل الشيطان أن تعاطيها بما تتعاطى لأجله من تسويله للناس تعاطيها ، فكأنّه هو الذي عملها وتعاطاها ، وفي ذلك تنفير لمتعاطيها بأنّه يعمل عمل الشيطان ، فهو شيطان ، وذلك ممّا تأباه النفوس.
والفاء في (فَاجْتَنِبُوهُ) للتفريع وقد ظهر حسن موقع هذا التفريع بعد التقدّم بما يوجب النفرة منها. والضمير المنصوب في قوله (فَاجْتَنِبُوهُ) عائد إلى الرجس الجامع للأربعة. و (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) رجاء لهم أن يفلحوا عند اجتناب هذه المنهيات إذا لم