يأذن به الله ، والتخلّص من ذلك إلى شهادة عيسى على النصارى بأنّه لم يأمرهم بتأليهه وعبادته. وهذا متّصل في الغرض بما تقدّم من قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) [المائدة : ٨٢]. فإنّ في تلك الآيات ترغيبا وترهيبا ، وإبعادا وتقريبا ، وقع الانتقال منها إلى أحكام تشريعية ناسبت ما ابتدعه اليهود والنصارى ، وذلك من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٨٧] وتفنّن الانتقال إلى هذا المبلغ ، فهذا عود إلى بيان تمام نهوض الحجّة على النصارى في مشهد يوم القيامة. ولقد جاء هذا مناسبا للتذكير العامّ بقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [المائدة : ١٠٨]. ولمناسبة هذا المقام التزم وصف عيسى بابن مريم كلّما تكرّر ذكره في هذه الآيات أربع مرات تعريضا بإبطال دعوى أنّه ابن لله تعالى.
ولأنّه لمّا تمّ الكلام على الاستشهاد على وصايا المخلوقين ناسب الانتقال إلى شهادة الرسل على وصايا الخالق تعالى ، فإنّ الأديان وصايا الله إلى خلقه. قال تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) [الشورى : ١٣]. وقد سمّاهم الله تعالى شهداء في قوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١].
فقوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ) ظرف ، والأظهر أنه معمول لعامل محذوف يقدّر بنحو : اذكر يوم يجمع الله الرسل ، أو يقدّر له عامل يكون بمنزلة الجواب للظرف ، لأنّ الظرف إذا تقدّم يعامل معاملة الشرط في إعطائه جوابا. وقد حذف هذا العامل لتذهب نفس السامع كلّ مذهب ممكن من التهويل ، تقديره يوم يجمع الله الرسل يكون هول عظيم لا يبلغه طول التعبير فينبغي طيّه. ويجوز أن يكون متعلّقا بفعل (قالُوا لا عِلْمَ لَنا ...) إلخ ، أي أنّ ذلك الفعل هو المقصود من الجملة المستأنفة. وأصل نظم الكلام : يجمع الله الرسل يوم القيامة فيقول إلخ. فغيّر نظم الكلام إلى الأسلوب الذي وقع في الآية للاهتمام بالخبر ، فيفتتح بهذا الظرف المهول وليورد الاستشهاد في صورة المقاولة بين الله والرسل. والمقصود من الكلام هو ما يأتي بقوله : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) [المائدة : ١١٦] وما بينهما اعتراض. ومن البعيد أن يكون الظرف متعلّقا بقوله : (لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [المائدة : ١٠٨] لأنّه لا جدوى في نفي الهداية في يوم القيامة ، ولأنّ جزالة الكلام تناسب استئنافه ، ولأنّ تعلّقه به غير واسع المعنى.
ومثله قول الزجّاج : إنّه متعلّق بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) [المائدة : ١٠٨] على أنّ (يَوْمَ)