ويجوز أن يكون جملة : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ) ابتدائية بتقدير : اذكر ، على أسلوب قوله تعالى : (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً) في سورة النمل [٧] ، فيكون الكلام تخلّصا إلى ذكر قصّة المائدة لمناسبة حكاية ما دار بين عيسى وبين الحواريّين في قوله تعالى : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي).
[المائدة : ١١١] وابتدءوا خطابهم عيسى بندائه باسمه للدلالة على أنّ ما سيقولونه أمر فيه اقتراح وكلفة له ، وكذلك شأن من يخاطب من يتجشّم منه كلفة أن يطيل خطابه طلبا لإقبال سمعه إليه ليكون أوعى للمقصود.
وجرى قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) على طريقة عربية في العرض والدعاء ، يقولون للمستطيع لأمر : هل تستطيع كذا ، على معنى تطلّب العذر له إن لم يجبك إلى مطلوبك وأنّ السائل لا يحبّ أن يكلّف المسئول ما يشقّ عليه ، وذلك كناية فلم يبق منظورا فيه إلى صريح المعنى المقتضي أنّه يشكّ في استطاعة المسئول ، وإنّما يقول ذلك الأدنى للأعلى منه ، وفي شيء يعلم أنه مستطاع للمسئول ، فقرينة الكناية تحقّق المسئول أنّ السائل يعلم استطاعته. ومنه ما جاء في حديث يحيى المازني «أنّ رجلا قال لعبد الله بن زيد : أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله يتوضّأ». فإنّ السائل يعلم أنّ عبد الله بن زيد لا يشقّ عليه ذلك. فليس قول الحواريّين المحكي بهذا اللفظ في القرآن إلّا لفظا من لغتهم يدلّ على التلطّف والتأدّب في السؤال ، كما هو مناسب أهل الإيمان الخالص. وليس شكّا في قدرة الله تعالى ولكنّهم سألوا آية لزيادة اطمئنان قلوبهم بالإيمان بأن ينتقلوا من الدليل العقلي إلى الدليل المحسوس. فإنّ النفوس بالمحسوس آنس ، كما لم يكن سؤال إبراهيم بقوله (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢٦٠] شكّا في الحال. وعلى هذا المعنى جرى تفسير المحققين مثل ابن عطية ، والواحدي ، والبغوي خلافا لما في «الكشاف».
وقرأ الجمهور : (يَسْتَطِيعُ) بياء الغيبة ورفع (رَبُّكَ). وقرأه الكسائي هل تستطيع ربك ـ بتاء المخاطب ونصب الباء الموحّدة ـ من قوله (رَبُّكَ) على أنّ (رَبُّكَ) مفعول به ، فيكون المعنى هل تسأل لنا ربّك ، فعبّر بالاستطاعة عن طلب الطاعة ، أي إجابة السؤال. وقيل : هي على حذف مضاف تقديره هل تستطيع سؤال ربّك ، فأقيم المضاف إليه مقام المضاف في إعرابه. وفي رواية الطبري عن عائشة قالت : كان الحواريّون أعلم بالله عزوجل من أن يقولوا : هل يستطيع ربّك ، ولكن قالوا : هل تستطيع ربّك. وعن معاذ بن جبل أقرأنا النبي هل تستطيع ربك.