أقول : إن أئمة الكفر أنفسهم شعروا بسلطانه على القلوب ـ وهو القدر المتاح لهم لإدراك إعجازه البيانى ـ فقالوا لأتباعهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (١). وذلك خوفا من سريان الروح التى شعر بها الوليد بن المغيرة حين قال : «إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، وإنه ليحطم ما تحته». وهو نفس الإعجاز الذى أدرك منه عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ وجها يناسبه حينما سمع القرآن فى بيت أخته فتهاوى صرح الشرك من قلبه ، وشمخ صرح الإيمان فى كيانه ، إلى آخر ما هو معلوم لنا فى تاريخ دعوة الإسلام.
لقد صحح القرآن كثيرا من النظريات العلمية التى كانت سائدة فى عصر التنزيل ، وسجّل فى مكان تلك النظريات حقائق ثابتة لا تقبل التبديل ولا التغيير ، فكان ذلك إلى جانب استعمال القرآن للحقائق الكونية فى الدعوة إلى الخالق الحكيم المبدع تحديا للعقل البشرى بإحقاق الحق مكان الباطل على يد رسول أمى ما كان يتلو كتابا ولا يخطّه بيمينه.
وصدق الله تعالى الذى تحدّى العالم كله فى كل العصور فى معرض الدلالة على وحدانيته وتفرده بالسلطان ، وذلك حينما قرر قيام دولة الإسلام على الأرض ، وعجز كل القوى العالمية عن أن تقضى على مجدها فقال : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) (٢) ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) (٣). ومؤامرات العالم على الإسلام وصموده شامخا أمام المؤامرات ، بل واتساع سلطانه على القلوب أعظم دليل على اتساع مدى الإعجاز القرآنى إلى جانب إقناع البيان ، وتجاوز
__________________
(١) سورة فصلت : ٢٦.
(٢) سورة النور : ٥٥.
(٣) سورة الأنفال : ٣٦.