موضوع دراسة وبحث عن أسباب تحول الرى إلى جفاف ، والخصب إلى قفر والعمران إلى خراب ، كما أشارت إليه الآية التاسعة من سورة الأنعام ما دام الأمر هكذا فإن الأمر يحتاج إلى دراسة وبحث يقوم على العلم والتحليل ، وتسجيل الأسباب والنتائج ، ومخاطبة العالم كله بهذه الدراسات الهادفة. وكما قال الكرمانى فى كتابه هذا : «أمروا باستقراء الديار ، وتأمل الآثار ، وفيها كثرة ، فيقع ذلك سيرا بعد سير وزمانا بعد زمان ، ليعلم أن السير مأمور به على حدة ، والنظر مأمور به على حدة ، ولم يتقدم فى سائر السور مثله».
والعجب العجاب من أمر تكرار القرآن وما يتراءى خلاله من إعجاز آيتان ، إحداهما من سورة الأنعام : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) (١) ، وقوله فى سورة القلم : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) (٢) ، فأكثر ما يستعمل وزن (أفعل) فى لغة العرب مع الفعل الماضى ، كقولهم : أعلم من دب ودرج ، وأحسن من قام وقعد ، وأفضل من حج واعتمر. فلما ذا استعمل مع الفعل المضارع فى سورة الأنعام ولم يستعمله مع الماضى كما فى سورة القلم ، وكما هو الغالب فى لغة العرب. ولما ذا الباء فى آية (القلم) ، وحذفت فى آية الأنعام؟
أما استعمال (أفعل) مع المضارع فى الأنعام فلأن سياق الكلام دائر حول المستقبل لبيان أصل عام ، وماض إلى الأبد ، فى شأن الرأى العام ، أو رأى (الجماهير) فيما يتصل بالعقيدة وشئون الدين بوجه خاص ، فالآية السابقة على آية الأنعام هى قوله تعالى : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٣). بخلاف ما فى سورة القلم ، فإن الكلام فيها عن قوم ضلوا بالفعل ، هم الكافرون من قريش : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ. بِأَيِّكُمُ
__________________
(١) سورة الأنعام : ١١٧.
(٢) سورة النجم : ٣٠.
(٣) سورة الأنعام : ١١٦.