تكرر هذا الاستعمال فى سورة النحل (٣٦) ، والنمل (٦٩) ، والروم (٤٢) وهكذا فى القرآن كله ما عدا سورة الأنعام فقد قال تعالى فيها : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا) (١) فاستعمل فى عطف النظر على السير (ثُمَ) التى هى للتراخى ، فلم كان ذلك ، وما ذا وراء هذا التكرار مع اختلاف العطف بين التعقيب والتراخى؟
أقول : إن الآيات كلها تجمع على حث المؤمنين على النظر فى عواقب المكذبين ، وهذا نهج عام يشترك فيه العلماء وغير العلماء من المسلمين على طريق الدعوة إلى الله ، يهتدى به الجاحدون إلى الحق ، ويزداد به الذين آمنوا إيمانا ويقينا ، وهو أن يتعظوا بمجرد رؤية آثار الكفار السابقين ، وكيف دمرت حضاراتهم وبادت حتى صارت أثرا بعد عين ، إذ يكفى : أن يلقى الإنسان نظرة عابرة على آثار الفراعنة فى مصر ، أو على مدائن صالح بالمملكة السعودية ، ليدرك من خلال عظمة الحضارة وسطوة الخراب عظمة الله وسلطانه على الكون ، وتكفى زيارة واحدة يقوم بها الإنسان للحصول على هذه النتيجة العاجلة.
أما آية سورة الأنعام فهى تطالب بمنهج آخر فيه تريث وتراخ ودراسة علمية متأنية يخرج منها الباحثون بمزيد من التفاصيل ، ومزيد من النتائج والدلالات على وجود الله وعظمته. ولهذا كانت الملابسات التى تحيط بآية الأنعام تشير إلى المطالبة بهذه الدراسة المتأنية المتراخية التى تحتاج بطبيعتها إلى وقت طويل ، ففي الآية (٦) أشار الله تعالى إلى القرون الماضية ، وإلى القرون التى أنشأها من بعدهم فى قوله : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٢). فما دام موضوع السير هو البحث فى القرون الماضية والمتتابعة ، والتى أصبحت
__________________
(١) سورة الأنعام : ١١.
(٢) سورة الأنعام : ٦.