المعملية التى توزن على مقادير بالغة الدقة ، ولا تؤتى النتيجة المأمولة منها إذا اختلت هذه التراكيب فى جزء من مائة منها.
هذا توجيه من توجيهات المكررات القرآنية يمكن أن نتبينه واضحا من قوله تعالى فى سورة البقرة : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (١) ، وقوله فى سورة المائدة : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (٢). فقوله تعالى على لسان الكفار : (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) لا يمنع أن يرجعوا عن اتباع آبائهم ، فهم لم يبلغوا النهاية فى دعوى إيمانهم بالأوثان ، ولهذا استعمل الله تعالى فى نفى هدايتهم لفظا لا يبلغ النهاية فى اليقين وهو قوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً). فإن فوق العقل فى اليقين (العلم). أما فى المائدة فقد بلغ الكفار النهاية فى الاعتداد بالأوثان ، وقطعوا على أنفسهم طريق العودة عنها بقولهم : (حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا). ولهذا استعمل الله فى نفى هدايتهم نفى العلم الذى هو أبلغ درجات اليقين فقال : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً). والدليل على أن العلم أرفع من العقل أن الله لا يوصف بالعقل ، وإنما يوصف بالعلم. فهل ترى أدق وزنا لمعانى الألفاظ ، ومراعاة تناسبها من هذا الوزن الحق الذى نزل به القرآن؟؟
ومن أمثلة هذه الدقة الرائعة التى لا تبلغها دقة العالم فى معمله ما جاء فى قوله تعالى : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا) (٣) فاستعمل الفاء فى عطف النظر على السير ، وهى للتعقيب بلا تراخ بينهما. وقد
__________________
(١) سورة البقرة : ١٧٠.
(٢) سورة المائدة : ١٠٤.
(٣) سورة النحل : ٣٦.