العليا من البلاغة والتحكم فى زمام القول ، وجودة القريحة ، وصفاء السليقة ، هذا العجز من هؤلاء القوم الذى أنزل القرآن بلغتهم يشكل عنصرا واحدا من حجة القرآن على العالم ، وهذا العنصر يضع القرآن موضع الاعتبار أمام غير العرب من الناطقين بلغات أخرى ، والذين لا يجيدون إلّا تذوق المعنى فى القرآن ، وهم عن تذوق الأساليب العربية بمعزل.
وذلك لأن العرب لو نجحوا فى معارضة القرآن لأسقطوا على الفور حجة الرسول صلىاللهعليهوسلم على أنه رسول يبلغ عن ربه دعوة الإسلام الخاتمة ، ولو سقطت هذه الحجة القائمة للرسول لاندثرت الدعوة ، وأصبحت فى عداد النحل الكاذبة التى زخرت بها المراجع الإسلامية.
أما وقد عجز العرب تماما عن معارضة القرآن ، فقد قامت حجة الرسول صلىاللهعليهوسلم على العرب ، وكان قيام هذه الحجة عاملا رئيسيّا فى إبراز حجة أخرى تشير بوضوح إلى روح القرآن وأثره العجيب فى بناء القوة من الضعف ، والتماسك من التمزق ، وسمو الهدف من ماديته وأرضيته ، والعالمية من النعرة العصبية ، والنبل والإيثار من السعار المالى الرهيب ، وتواضع الرءوس من تعاليها ، إلى غير ذلك من معجزات التاريخ التى دبت فى الوسط العربى فى قوة وسرعة وعزم فسمت بهم من وهدة التحلل ، وفرقة التجمع حول شيوخ القبائل المختلفى النزعات والأغراض ، وهلهلة العقيدة فى الأحجار والكهان إلى الوحدة حول رسول الله صلىاللهعليهوسلم على أساس متين من عقيدة الوحدانية التى رفضت كل الشوائب ، وأحالت القتام الذى كان يسود الجزيرة العربية إلى صفاء ونقاء.
ودالت دول الشرك تماما فى الجزيرة ، وكان جيش تبوك وبعث أسامة بن زيد ، الذى توفى الرسول صلىاللهعليهوسلم قبل إنفاذه ، كان هذان العملان العسكريان بمثابة الإشارة النبوية إلى ساعة الصفر التى يتحول فيها جهاد الإسلام إلى الواقع العالمى ، بعد أن أقام حجته الناصعة بالقرآن العربى على العرب الناطقين بالعربية ، وأفصح من نطق بها.