والفهم عيش ، وإنما يفهم الكلام رجلان : واحد يحب أن يفهم لكي يتكلم به في موضع ، فليس له حظ منه إذ ذاك ، وآخر يسمعه فيشغله العمل به عن غيره ، وهذا أعز من الكبريت الأحمر ، وأعز من كل عزيز ، وهو في المتحابين في الله. والتفهم بكلف والفطنة لا تنال بالتكلف ، وهو العمل بالإخلاص له ، فإن لله تعالى عبادا في الجنة لو حجبوا عن اللقاء طرفة عين لاستغاثوا فيها كما يستغيث أهل النار في النار ، لأنهم عرفوه ، أفلا ترون إلى الكليم عليهالسلام حيث لم يصبر عن رؤيته لما وجد حلاوة مناجاته حتى قال : «إلهي ، ما هذا الصوت العيراني الذي غلب على قلبي منك؟ قد سمعت صوت الوالدة الشفيقة ، وصوت الطير في الهواء ، فما سمعت صوتا أجلب لقلبي من هذا الصوت».
وكان موسى عليهالسلام بعد ذلك كلما رأى جبلا أسرع إليه ، وصعد عليه ؛ شوقا إلى كلامه جل جلاله.
وقد كان رجل من بني إسرائيل لا يذهب موسى إلى مكان إلا مشى بحذائه ، ولا يجلس مجلسا إلا جلس بحذائه ، حتى تأذى موسى عليهالسلام منه ، قيل له : إنك أذيت نبي الله. قال : إنما أريد أن أنظر إلى الفم الذي كلّم الله به. فقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] فقال : يا موسى ، إنه لن يراني خليقة في الأرض إلا مات. فقال : «رب أرني أنظر إليك وأموت ، أحب إلي من أن لا أنظر إليك وأحيى». فمن أخلص لله قلبه له فاشتاق إليه وصل إليه.
وقد كان أبو عبيد الله الخواص يصيح ببغداد فيقول : أنا من ذكرك جائع لم أشبع ، أنا من ذكرك عطشان لم أرو ، ووا شوقاه إلى من يراني ولا أراه ، ثم يأتي دجلة وعليه ثياب فيرمي نفسه فيها ، فيغوص في موضع ويخرج من موضع آخر وهو يقول : أنا من ذكرك جائع لم أشبع ، أنا من ذكرك عطشان لم أرو ، ووا شوقاه إلى من يراني ولا أراه ، والناس على الشط يبكون.
وجاء رجل إلى سهل يوما والناس مجتمعون عليه فقال : يا أبا محمد انظر إيش عمل بك وإيش يوقع لك ، فلم يؤثر ذلك على سهل ، وقال : هو المقصود هو المقصود.
قوله تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) [٧٦] قال : أي يزيد الله الذين اهتدوا بصيرة في إيمانهم بالله ، وفي اقتدائهم بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وهو زيادة الهدى والنور المبين.
قوله تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) [٨٥] أي ركبانا. والمتقون هم الذين يتقون ما سوى الله عزوجل. وقال : لا يكمل للعبد شيء حتى يحصن عمله بالخشية ، وفعله بالورع ، وورعه بالإخلاص ، وإخلاصه بالمشاهدة ، والمشاهدة بالتقوى عما سوى الله.