قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [٧٣] قال : جاهد نفسك بسيف المخالفة وحملها حمولات الندم ، وسيرها في مفاوز الخوف ، لعلك تردها إلى طريق التوبة والإنابة ، ولا تصح التوبة إلا من متحير في أمره ، مبهوت في شأنه ، واله القلب مما جرى عليه ، قال تعالى : (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) [١١٨] الآية. قوله : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) [١٠٨] قال : هذه الطهارة أراد بها الذكر لله تعالى سرا وعلانية والطاعة له.
قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [١١١] يعني اشتراها من شهوات الدنيا وما يوجب الاشتغال عن ذكره ، حتى تكون نفسه وماله خالصة له ، فمن لم يبع من الله حياته الفانية وشهواته الزائلة ، كيف يعيش مع الله تعالى؟ وكيف يحيا حياة طيبة؟ ثم قال : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) [١١١] بما لا خير فيه ، وعوضهم ما فيه الخير كله ، مع أن ما في الكونين فهو ملكه ، وهذا من غاية لطفه وكرمه بعباده المؤمنين. وقد حكي عن مالك بن دينار أنه مر بقصر يعمر ، فسأل الأجراء عن أجرتهم ، فأجابه كل واحد منهم بما كانت أجرته ، ولم يجبه واحد ، فقال : ما أجرتك؟ فقال : لا أجر لي. فقال : ولم ذلك؟ قال : لأني عبد صاحب القصر. فقال مالك : إلهي ما أسخاك ، الخلق كلهم عبيدك ، كلفتهم العمل ووعدتهم الأجر.
قوله : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) [١١٢] قال سهل : ليس شيء في الدنيا من الحقوق أوجب على الخلق من التوبة ، فهي واجبة في كل لمحة ولحظة ، ولا عقوبة عليهم أشد من فقد علم التوبة. فقيل : ما التوبة؟ فقال : أن لا تنسى ذنبك (١). وقال : أول ما يؤمر به المبتدئ التحويل من الحركات المذمومة إلى الحركات المحمودة ، وهي التوبة ؛ ولا تصح له التوبة حتى يلزم نفسه الصمت ، ولا يصح له الصمت حتى يلزم نفسه الخلوة ، ولا تصح له الخلوة إلّا بأكل الحلال ، ولا يصح له أكل الحلال إلّا بأداء حق الله تعالى ، ولا يصح له أداء الحق إلّا بحفظ الجوارح والقلب ، ولا يصح له ما وصفنا حتى يستعين بالله عزوجل على جميعه. فقيل : ما علامة صدق التوبة؟ قال علامتها أن يدع ما له سوى ما ليس له. وسئل سهل عن الرجل يتوب ويقلع عن ذلك الذنب ، ثم يخطر ذلك بقلبه أو يراه أو يسمع به فيجد حلاوة ذلك الذنب السيئ كيف الحيلة فيه؟ فقال : وجدان الحلاوة من الطبع لا يتحول ، فيصير المحبوب مكروها ؛ ولكن يقهر عزم القلب فيرجع في ذلك إلى الله عزوجل ، ويرفع إليه شكواه ، ويلزم نفسه وقلبه الإنكار ولا يفارقه ، فإنه إن غفل عن الإنكار طرفة عين تخوفت عليه أن لا يسلم منه (٢). قال : دعوا القال والقيل كله في هذا الزمان ، عليكم بثلاث : توبوا إلى الله عزوجل مما تعرفوه بينكم وبينه ، وأدوا مظالم العباد
__________________
(١) قوت القلوب ١ / ٣١٨. |
(٢) قوت القلوب ١ / ٣٢٤. |