الفاني الذي عصفت به ريح البلى من قديم الزمان ، وهو خلو من كل ما يسر القلب ويبهج النفس ، بل ليس حشوه إلا الهموم والأحزان ، وهو حبس للمؤمن يضيق به لأنه يلقى فيه المكاره ويصيم فيه النفس عن مراتع الشهوات ويثقلها بقيود الطاعات ، ولكنه جنة للكافرين يرتع فيها منطلقا من كل قيد متبعا للأهواء والشهوات وسكان هذا المنزل المحشو بالآفات هم أهل البطالة الذين لا يشعرون بالمسئوليات ولا يقدرون التبعات ، وأهل الجهالات الذين رضوا لأنفسهم أن يلتحقوا بغمار والعجماوات وأهل السفالة الذين هجروا معالي الأمور وأخلدوا إلى المحقرات والدناءات ، وبالجملة فهم أنجس الحيوان وأخبث البريات. وأطيبهم عيشا في هذه الدنيا هو أشدهم جهلا بحقوق الله العظيم وحقائق كتابه الكريم فهو كما يقول الشاعر :
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله |
|
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم |
ولقد عمروا هذه الدنيا وافتنوا في عمارتها ، حتى لم يتركوا بابا للرفاهة إلا ولجوه ولا طريقا للشهوة إلا سلكوه ، فقد يخيل لمن يراهم يلهثون وراءها ويمنعون في عمارتها وتزيينها أنهم يعملون في دار خلد ومنزل إقامة ، لا في دار بلى ومنزل نفاد وهم مع ذلك هجروا مجالس العلم وأقفرت منهم ربوع الإيمان ، لأنهم استحبوا الحياة الدنيا ونعيمها الزائل على ما عند الله للمتقين من جنات ورضوان. وغرتهم الأماني الباطلة فعاشوا فيها سعيا وراء الحظوظ العاجلة ورضي بكل هوان ومذلة مع بذل غاية التعب والجهد في تحصيلها ، فإذا وقع بهم مكروه من مكارهها اغتموا لذلك أعظم الغم ، وإذا فاتهم شيء من محبوباتها حزنوا أشد الحزن ، فهم دائما يتقلبون في غموم وأحزان.
* * *
والله لو شاهدت هاتيك الصدو |
|
ر رأيتها كمراجل النيران |
ووقودها الشهوات والحسرات والآ |
|
لام لا تخبو مدى الأزمان |
أبدانهم أجداث هاتيك النفو |
|
س اللائي قد قبرت مع الأبدان |
أرواحهم في وحشة وجسومهم |
|
في كدحها لا في رضا الرحمن |