وقد يقصد زيارة المكان في نفسه لشرفه ، وهذا لا نقول بأنّه قربة إلّا فيما شهد الشرع به ، فلعلّ مالكاً رحمهالله أجاب على ذلك.
ويدلّ على أنّ هذا مراده استدلاله بالحديث الذي جاء «لا تعمل المطيّ إلّا إلى ثلاثة مساجد».
وسنبيّن بياناً واضحاً : أنّ الحديث إنّما هو في السفر للأمكنة ، لا للمقاصد التي فيها ، ومالك أجلّ وأعلم وأوسع باعاً وأعلى كعباً من أن يخفى عليه ذلك ، فاستدلاله به يدلّ على أنّه أراد المكان ، فيكون مراده أنّ زيارة القبر من حيث هو تلك البقعة ليس بقربة ، وهو يوافق ما حمل القاضي عياض عليه قوله : «زرت قبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم».
وحينئذ فإمّا أن نوافق مالكاً رحمهالله على ذلك ؛ عملاً بقوله رحمهالله : «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد» ويحمل قوله : «من زار قبري» على أنّ المراد من زارني في قبري ، كما هو الظاهر المتبادر إلى الفهم.
وأما إن يقال : إنّ زيارة قبره أيضاً قربة بقوله : «من زار قبري» وهذا أخصّ من قوله : «لا تشدّ الرحال» فيخصّص به.
إلّا أنّ كلّاً منهما أعمّ وأخصّ من وجه ، فلا يقضى بتخصيص أحدهما للآخر.
والأولى أنّ المراد بقوله : «من زار قبري» : من زارني في قبري ، ويكون قصد البقعة نفسها ليس بقربة ، كما اقتضاه كلام مالك رحمهالله.
فقد بان بهذا معنى كلام مالك رحمهالله ، وأنّه ليس فيه ما يقتضي أنّ الزيارة ليست بقربة ، ولا أنّ السفر إليها ليس بقربة ، بل هي قربة عند جميع العلماء ، ولهذا لو نذر الإتيان إلى مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قلنا : بأنّه يلزمه ، وأنّه يشترط ضمّ قربة إلى الإتيان ، قال الشيخ أبو عليّ السنجيّ من أصحابنا : إنّه يكتفى بالزيارة ، وقال الرافعيّ : إنّه الظاهر ، وتوقّف فيه الإمام ؛ من جهة أنّ الزيارة لا تتعلّق بالمسجد