ومن هنا يتّضح أنّ المؤمن الواقعي والإنسان الذي يتمتع باللّياقة الكاملة هو الذي يتحرّك في سلوكه من موقع مراعاة الأمانة بصورها المختلفة ويهتم بالحفاظ عليها من موقع المسؤولية وأداء الوظيفة.
أمّا عطف الوفاء بالعهد على حفظ الأمانة فيبيّن هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذين المفهومين يعودان إلى جذر واحد ويشتركان في الأصل ، لأنّ نقض العهد يعتبر نوع من الخيانة في العهد والميثاق ، ورعاية الأمانة نوع من الوفاء بالعهد والميثاق أيضاً.
وتعبير (راعون) مأخوذ من مادة (رعاية) وهي من مادة (رعى) التي يراد بها رعي الأغنام ومراقبتها في عملية سوقها إلى حيث الماء والكلاء في الصحراء ، وهذا إنّما يدلّ على أنّ المقصود من هذه العبارة في الآية الكريمة هو أكثر من أداء الأمانة في مفهومها الظاهري ، أي النظر والمحافظة والمراقبة للشيء من جميع الجوانب.
وبديهي أنّ الأمانة تارة تكون ذات بعد فردي وتسلّم بيد شخص معين (كالأمانات المالية التي يودعها الإنسان لدى الآخرين) وتارة اخرى لها بعد جماعي مثل حفظ القرآن الكريم من التحريف والدفاع عن الإسلام والمحافظة على كيان الدول الإسلامية ، فهي كلّها أمانات وضعت بيد المسلمين وعليهم أن يتحرّكوا بصورة جماعية ويتكاتفوا فيما بينهم من أجل حفظ وصيانة هذه الأمانات الإلهية.
وتتحرك «الآية الثانية» لتثبيت أمرين إلهيين :
الأول : يتحدّث عن أداء الأمانة.
الثاني : يتحدّث عن الحكم بالعدل فتقول الآية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً).
ومع أنّ مسألة الحكومة العادلة أو التحكيم الصحيح والسليم بين الناس له مكانة سامية في نظر القرآن الكريم ، ولكن في نفس الوقت ورد الأمر بأداء الأمانة قبله وهذا يبيّن الأهميّة