الصدق وإرادة الجانب الصادق من كلماته ، رغم أنّ المستمع يتصوّر المعنى الآخر من ذلك الكلام ، ومن الواضح أنّ اشتباه المستمع في فهم معنى كلام القائل لا ربط له بالقائل نفسه.
وهنا يتّضح أيضاً أنّه في الموارد التي يجد الإنسان ضرورة للاستفادة من الكذب إذا يمكن من التورية وجب عليه استخدامها للتخلّص من الوقوع في الكذب ، وعلى هذا الأساس فإنّ الكذب لا يكون مباحاً في موقع الضرورة إلّا فيما لو كانت أبواب التورية موصدة أيضاً ، والاصطلاح العلمي أنّه لا تكون لديه مندوحة.
ومن هنا يتّضح أيضاً خطأ ما ذهب إليه الغزالي من عدّه التورية من مصاديق الكذب ، ولكنّه قال بأنّ قبحها وفسادها أدقّ من مصاديق الكذب الاخرى ، إلّا أن يكون مراده من التورية أمر آخر بحيث تعدّ من مصاديق الكذب واقعاً.
وعلى أيّة حال فإنّ قبح الكذب وفساده إلى درجة كبيرة بحيث أنّ الإنسان لا بدّ له من إجتنابه بالمقدار الممكن حتّى لو تمكّن إجتنابه عن طريق التورية.
ونلاحظ في كلمات الأنبياء الواردة في القرآن الكريم والروايات الشريفة أنّهم قد يتخلّصون من الكذب بالتورية في بعض الحالات من قبيل ما نراه من محاججة إبراهيم عليهالسلام لقومه من عَبَّدْة الأوثان عند ما سألوه عن الشخص الذي إرتكب عملية تحطيم الأوثان والأصنام فقال في مقام الجواب : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ)(١).
فرغم أنّ السامع لهذا الكلام يمكن أن يفهم منه أنّ إبراهيم عليهالسلام نسب تحطيم الأصنام إلى كبيرهم أي الصنم الكبير ولكنّ جملة (إن كانوا ينطقون) جاءت بعنوان شرط للمراد من الكلام ، أي أنّهم لو كانوا ينطقون فإنّ هذا الفعل من فعل كبيرهم.
وكذلك جملة (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) التّي قالها عمال يوسف لأخوته ، فمع ملاحظة الآيات السابقة قد ينعكس إلى الذهن أنّ هؤلاء الأخوة هم الذين سرقوا مكيال الملك في حين أنّ مرادهم هو سرقة الأخوة ليوسف من أبيهم في كنعان.
وخلاصة الكلام أنّ التورية والتكلّم بكلام يحتمل وجهين ليس من مصاديق الكذب
__________________
١ ـ سورة الأنبياء ، الآية ٦٣.