وأما الثاني : فالمعنى الذي أتى بها من أجله هو الإجمال في الخطاب والدفع بالتي هي أحسن والتجنب للهجر من القول إذا هو أرسخ في الالفة وأمكن. قال الله تعالى : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ).
وأما الثالث : فقد اختلفت عبارات أهل هذه الصناعة فيها وآثرها ما ذكره ابن الاثير في جامعه قال : إن الكناية على قسمين : قسم يحسن استعماله. وقسم لا يحسن استعماله. فأما الضرب الأول وهو الذي يحسن استعماله فينقسم إلى أربعة أقسام : الأول : التمثيل وهو التشبيه على سبيل الكناية ، وذلك أن تراد الاشارة إلى معنى فتوضع ألفاظ على معنى آخر ، وتكون تلك لألفاظ ، وذلك المعنى مثالا للمعنى الذي قصدت الاشارة إليه ، والعبارة عنه كقولنا ـ فلان نقي الثوب ـ أي منزّه عن العيوب ، وللكلام بهذا فائدة لا تكون لو قصد المعنى بلفظه الخاص به ، وذلك لما يحصل للسامع من زيادة التصوير المدلول عليه ، لأنه إذا صور في نفسه مثال ما خوطب به كان ذلك أسرع إلى الرغبة فيه أو الرغبة عنه. فمن بديع التمثيل قوله تعالى : ( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ) فانه مثل الاغتياب يأكل الانسان لحم انسان آخر مثله ، ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله لحم لأخ ، ولم يقتصر على لحم الاخ حتى جعله ميتا ثم جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة ، فهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له مناسبة مطابقة للمعنى الذي وردت لأجله.
فأما تمثيل الاغتياب بأكل لحم انسان آخر مثله ، فشديد المناسبة جدا ، وذلك لأن الاغتياب إنما هو ذكر مثالب الناس وتمزيق أعراضهم ، وتمزيق العرض مماثل لأكل الانسان لحم من يغتابه لأن أكل اللحم فيه تمزيق لا محالة ، وأما قوله لحم أخيه ، فلما في الاغتياب من الكراهة ، لأن أرباب العقل والشرع قد أجمعوا على استكراهه وأمروا بتركه والبعد