عبادته بالنار فجمع بين الترغيب في طاعته والترهيب من معصيته ، ثم سأل المشركين عما كانوا يعبدون من الأصنام سؤال موبخ لهم مستهزئ بهم وذكر ما يدفعون إليه عند ذلك من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمنى العودة ليؤمنوا .. فانظر أيها المتأمل إلى هذا الكلام الشريف الآخذ بعضه برقاب بعض مع احتوائه على لطيفة دقيقة حتى كأنه معنى واحد وخرج من ذكر الأصنام وتقريره لأبيه وقومه من عبادتهم إياها مع ما هي عليه من التعري عن صفات الإلهية حيث لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع الى ذكر الله تعالى فوصفه بصفات الالوهية وعظّم شأنه وعدد نعمه ليعلم بذلك أن العبادة لا تصح الاّ له ثم خرج من هذا الى دعائه إياه وخضوعه له ، ثم خرج منه إلى ذكر يوم القيامة وثواب الله عز وجل وعقابه ، فتدبر هذه التخليصات اللطيفة وضم هذا إلى غيره من تضمين هذا الكلام بأنواع من صناعة التأليف وهي الايجاز والكناية ، والتقديم والتأخير ، ثم إنابة الفعل الماضي عن الفعل المضارع.
فأما الإيجاز فلا خفاء به على العارف بما أشرنا اليه في بابه الذي سبق ذكره أولا ، وإن من جملة قوله تعالى : ( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) فإنه جمع الترغيب في طاعته ، والترهيب من معصيته مع عظمهما وفخامة شأنهما في هذه الكلمات اليسيرة.
وأما الكناية فقوله ـ وبرّزت الجحيم للغاوين ـ والغاوون هنا كناية عن أبيه وقومه ، ويدل على ذلك قوله : وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله ـ لأن كلامه في الأول كان معهم في عبادتهم للأصنام. وأما التقديم والتأخير فإنه ذكر إبراهيم النعمة تعديد الاحسان قبل الدعاء وطلب الحاجة. وأما انابة الفعل الماضي عن المضارع فقوله ـ وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين ، وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله ـ بعد قوله ـ ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من