( ولما ) كان جامعا لهذه المعاني المتفرقة ، محتويا على بدائع المباني المشيدة والفنون المتأنقة ، وضروب من المقاصد الخفية والجلية ، وأنواع من خفايا أسرار العوالم العلوية والسفلية ، أنزله على خير رسول ، قلبه منبع الحكم ، وسمعه مقر صريف القلم ، وعقله قد استوى على سوقه واستتم ، ولسانه عن الذلل والخطأ في منعة وعصم ، وبصره وبصيرته عنهما ما اختفى هدى ولا اكتتم ، فبلّغه من التبليغ مرامه ، وبيّن حلاله وحرامه ، وعيّن فيه مراد الله من خلقه وأحكامه ، وعرّف فصه ونصه ، وأظهر عامّه وما خصه ، وأبدى ناسخه ومنسوخه ومحكمه ، وفهّم متشابهه ومبهمه ، وجلا غوامضه وخفاياه ، وأوضح قصصه وقضاياه ، وأظهر عن أمثاله التي ليست لها أمثال ، وأعلم بخفي إشاراته التي هي أدقّ من السحر الحلال ، وأرق من العذب الزلال ، وأنبأ بكنايته التي هي أجمل من التصريح ، وصرح بحقيقته التي تسبق إليها الأذهان من غير تعريض ولا تلويح ، وأوجز مجازه الذي يغير تدبر لا تجيزه العقول ، ولو شاء لجعله هو والحقيقية سيان ، إلى غير ذلك من العلوم الظاهرة والفنون الباهرة.
( خلا ) ما تضمنه من العلوم الباطنة ، والمعاني التي هي إلى الآن في كمائمها كامنة ، التي لم يطلع الله عليها من خلقه أحدا ، والخفايا التي لم يظهر عليها إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ، فجزاه الله أحسن جزاء عنا ، وبلغه أفضل سلام منا وصلى الله عليه وعلى آله ما طلع نجم وبدا ، وما اخضلّ نجم برذاذ وندا ، ورضي الله عن أصحابه ليوث غابه ، وغيوث سحابه.
( فكتاب الله تعالى ) أشرف ما صرفت إليه الهمم ، وأعظم ما جال فيه فكر ، ومد به قلم ، لأنه منبع كل علم وحكمة ، ومربع كل هدى ورحمة ، وهو أجلّ ما تنسك به المتنسكون ، وأقوى ما تمسك به