النبيّ صلىاللهعليهوآله موجود عند صاحب آخر في بلد آخر ، وقد حضر المدني ما لم يحضر المصري ، وحضر المصري ما لم يحضر الشامي ، وحضر الشامي ما لم يحضر البصري ، وحضر البصري ما لم يحضر الكوفي ؛ كلّ هذا موجود في الآثار وفيما علم من مغيب بعض الصحابة عن مجلس النبيّ صلىاللهعليهوآله في بعض الأوقات وحضور غيره فمضت الصحابة على ما ذكرنا.
ثمّ خلف بعدهم التابعون الآخذون عنهم ، وكلّ طبقة من التابعين في البلاد الّتي تقدّم ذكرها إنّما تفقّهوا مع من كان عندهم من الصحابة ، وكانوا لا يتعدّون فتاواهم إلّا اليسير ممّا بلغهم عن غير من كان في بلادهم عن الصحابة ، كاتّباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى عبد الله بن عمر ، واتّباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى عبد الله بن مسعود ، واتّباع أهل مكّة في الأكثر فتاوى عبد الله بن عبّاس ، واتّباع أهل مصر في الأكثر فتاوى عبد الله ابن عمرو بن العاص.
ثمّ أتى من بعد التابعين فقهاء الأمصار كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة ، وابن جريح بمكّة ، ومالك وابن الماجشون بالمدينة ، وعثمان البتّي وسوار بالبصرة ، والأوزاعي بالشام ، والليث بن سعد (١) بمصر ، فجروا على تلك الطريقة من أخذ كلّ واحد منهم عن التابعين من أهل بلده فيما كان عندهم واجتهادهم فيما لم يجدوا عندهم.
وذكر أبو عمرو الكندي : أنّ أبا سعيد عثمان بن عتيق مولى غافق أوّل من رحل من أرض مصر إلى العراق في طلب الحديث ، توفّي سنة أربعة وثمانين ومائة ، وكان حال أهل الإسلام من أهل مصر وغيرها من الأمصار في أحكام الشريعة على ما تقدّم ذكره ، ثمّ كثر الترحّل إلى الآفاق وتداخل الناس والتقوا وانتدب أقوام لجمع الحديث النبوي وتقييده ، فكان أوّل من دوّن العلم محمّد بن شهاب الزهري ، وكان ممّن صنّف وبوّب سعيد بن أبي عروبة والربيع بن صبيح بالبصرة ، ومعمّر بن راشد باليمن ، وابن جريح بمكّة ، ثمّ سفيان الثوري بالكوفة ، وحمّاد بن سلمة بالبصرة ،
__________________
(١) ط : سعيد.